عانى التعليم العالي منذ تأسيس وزارة التعليم العالي والبحث العلمي قبل خمسين عاما من اشكال مختلفة من التدخل السياسي، حيث تم قمع أي شكل من أشكال المشاركة النقدية والحريات الاكاديمية والنشاط السياسي والاحتجاج إن لم يتم سحقها بعنف. أصبح التمييز بين التدريسيين قاعدة، والتدريس يعتمد بمعظمه على التلقين، والمناهج جامدة كالصخر والبحوث مقتبسة وعديمة الفائدة والقيادات الجامعية تخضع لإرادة السياسيين ولم يعد الالتحاق بالجامعة ولا بالدراسات العليا ولا الشهادات شأن من شؤون الجامعات وانما تحددها رغبات السياسيين وعدد من اعضاء مجلس النواب. ولا يتم تقدير الإبداع إلا من خلال تدابير قصيرة النظر مستندة على القياس الكمي او على معايير غريبة عن التعليم العالي.
عند تقييم أداء الوزارات المتعاقبة في التعليم العالي، يحتاج المرء إلى أن يكون على دراية بالوضع السياسي في الدولة. في حين أن نموذج الجامعة المستقلة التي دعينا اليها منذ 2003 لم يكن الا حلم وحاليا مجرد خيال في عراق اليوم، فإن إمكانية جعل الجامعات أكثر ارتباطا بالمجتمع، وان يصبح التعليم اكثر جودة من خلال الإصلاحات الاستراتيجية تم انهائها بالكامل في السنوات الاخيرة.
لقد تم إضعاف أي إمكانية للإصلاح من خلال التدخلات السياسية (ومنها قانون تعادل الشهادات)، والتخفيضات غير المعقولة في ميزانية التعليم العالي للبناء، والابتعاث وبما يتماشى مع انتشار الفساد والنهب من ميزانية الدولة. التدخلات السياسية اصبحت حالة طبيعية، وهو ما يقلقني اكثر من اي امر آخر لان نظام التعليم الذي يحكمه سياسيين فاسدين لا يمكن الا ان ينتج "متعلمين جهلة".
الطلاب هم من يتحملون وطأة انعدام الاموال الكافية، وهزالة االمرافق الاكاديمية، وضعف تدريب التدريسيين. اصبحت الشهادات العليا للوجاهة والمكانة الاجتماعية، ولم يعد حاملو هذه الشهادات يفهمون أنهم تعلموا من أجل أن يخلقوا قيمة أعلى وأكثر جودة في القطاعات الحكومية أو الخاصة. النقاش الأساسي حول معنى الجامعات كمؤسسات حاسمة للتعليم العالي والتي يجب أن تشكل نقطة البداية لأي استراتيجية للتعليم العالي غير موجود.
إذن ما هي سياسة الحكومات المتعاقبة بشأن التعليم العالي؟
لم يتم صياغة إطار سياسة شاملة يتناول التعليم العالي على وجه التحديد فيما عدا التوسع في القبول. ولا يبدو ان الحكومات تسترشد في خططها برؤية وأهداف محددة، أو واضحة، بل ان معظم قراراتها هي انعكاس للازمات التي تمر بها. ويبدو ان سياسة التوسع في السياسات العليا في ظاهرها استجابة للضغوط من خريجي الجامعات العاطلين ومن الذين يتطلعون الى تحسين منزلتهم الاجتماعية، وكذلك ضغوط اعضاء مجلس النواب سواء لتحقيق رغباتهم الشخصية او للحصول على مكاسب انتخابية. وتكمن خطورة هذه الاجراءات في ضعف وفساد الدراسات العليا وعدم تحقيقها لأهدافها في زيادة الدقة، والقوة والعمق في التخصص وتأهيل الدارس الى البحث العلمي المتعمق والتفكير النقدي، وحل المشاكل الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، بالاضافة الى وقوفها حجر عثرة امام الابتعاث والذي يمثل الطريق الرئيسي لاكتساب المعارف والعلوم الحديثة والخبرة الدولية وتعلم اللغات وثقافات الشعوب والاحتكاك بالعلماء العالميين.
ان ثقل ظاهرة بطالة الخريجين المباشرة وغير المباشرة وانخفاض الكفاءة التعليمية والتدريبية و"الجودة" وزيادة الفاقد التربوي تتطلب نهجا اداريا وتعليميا مغايرا لما هو قائم حاليا، لذا ادعو الحكومة وقيادات التعليم العالي الى التفكير والتخطيط لنظام تعليمي جامعي من خلال ثلاثة مفاهيم سبق وان اكدتُ عليها مراراً:1- استقلالية الجامعة والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها.2- تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية.3- تطوير المناهج وطرائق التعليم والتدريس.ان نظرة سريعة على التنظيم الاداري لإدارة التعليم العالي والبحث العلمي سواء على مستوى الادارة المركزية، أم على مستوى الادارة الجامعية والمؤسساتية يكشف لنا مدى هيمنة الادارة المركزية، في حين يعاني التنظيم الجامعي من الخلل والضعف. لقد تناولتُ هذا الموضوع في عدد من المقالات، ووضعت فيها إطار عام لاستقلالية الجامعات يمكن للقارئ من مراجعتها بفتح الروابط في اسفل المقالة.
المشكلة تكمن في توزيع المسؤوليات، حيث تبدو صورة التنظيم اللامتوازن في طريقة توزيع المسؤوليات وممارسة السلطات لصالح الادارة المركزية وفي التزايد في تدخلات مجلس النواب واعضائه. وجود وزارة تدير التعليم العالي والجامعات حكومية وأهلية ينتج بالضرورة توزيع مسؤولية وتقسيم عمل في دوائر ادارية تسند الى اشخاص يتولون ادارتها وتسييرها لتحقيق الاهداف العامة للوزارة. فكلما كان التنظيم الاداري في الوزارة محكما، وكلما تخلت ادارات الجامعات عن المطالبة بادارة نفسها بنفسها، نتج عنه زيادة في هيمنة الادارة المركزية على مستوى ممارسة السلطات المالية والادارية والاكاديمية، خصوصا عندما يكون تنظيم الادارة الجامعية اصلا ضعيفا وناقصا وهشا لكون معظم التعيينات مستندة على المحاصصة الحزبية او موافقة الاحزاب. ويمكن ملاحظة ان المسؤولية مرتبطة بالإدارة المركزية وعلاقاتها بكل جامعة على حدة ممثلة برئيس الجامعة والعمداء والكليات بينما ينعدم الارتباط بين الجامعات على مستوى التنظيم المؤسساتي وحتى بين الكليات داخل كل جامعة وفيما بين الجامعات مما نتج عن ذلك هيمنة المركز على الجامعات على مستوى ممارسة السلطة الادارية. ان هذا الوضع اثر تأثيرا كبيرا في عقلية الاستئثار بالقرارات، سواء على مستوى النوع ام الكم بين مجلس النواب والوزارة من جهة والجامعات من جهة اخرى مع ان الاخيرة تقع اصلا تحت رحمة القوى السياسية من خلال نظام المحاصصة الذي يحكم تعيين قياداتها. ومهما كانت أهمية القرارات المركزية لتسيير الجامعات فأنها تتصف بخاصيتين سلبيتين، هما انها شمولية لا تأخذ بنظر الاعتبار رأي التدريسي في التسيير الاداري والتربوي والاكاديمي، ولا في خصوصية وضع الجامعة كمؤسسة علمية لها مسؤولية في تحديد رؤاها وأهدافها في القبول والمناهج والتخطيط الاكاديمي والاشراف والتدبير المالي.
هناك شيئان قوّضا من امكانية منح الجامعات العراقية استقلاليتها. أولاً، للوزارة سلطة قوية للغاية، وثانيا، التدخل السياسي في الجامعات. دعونا نأخذ هذين العاملين واحدا تلو الآخر. الوزارة مسؤولة عن تعيين الاداريين والتدريسيين ورواتبهم وعن الترقية والمكافئات وما إلى ذلك، وهي الامور التي جعلت السيطرة على الأوساط الأكاديمية أسهل. ثم تأتي البرامج والمناهج وتحديد ما يتم تدريسه ومن يقوم بتدريسه على اساس الاعتراف بالاختصاص. تليها قواعد القبول، ومن يمكن له ان يتقدم لدراسة الماجستير، أو الدكتوراه وما إلى ذلك. تم تمويه كل واحدة من هذه التدخلات في استقلالية الجامعات في اطار المنفعة المشتركة والتنظيم المشترك القائم على اساس ان الوزارة تعرف مصلحة البلد بافضل مما تعرفه كل جامعة على حدة. ولكي نكون منصفين، منذ ان بدأت إعداد كبيرة من الكليات والجامعات الاهلية، كان العديد منها يقدم برامج دون المستوى. علاوة على ذلك، نظراً لوجود طلب للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه، ولاعتقاد الجامعات بأن منحها لهذه الدرجات يكسبها منزلة افضل، فإن العديد من الجامعات بدأت تمنح الماجستير والدكتوراه. لكن لماذا حدث هذا؟ كان يحدث لأن سياسات الحكومات شجعت الكمية. في السبعينات من القرن الماضي عندما بدأت الدراسات العليا، كانت جامعة بغداد تقدم برنامج دراسة لماجستير قوية مدتها سنتان. كانت مثل درجة البكالوريوس العادية من جامعة بريطانية أو أمريكية. كان معظم التدريسيين والمشرفين على طلبة الماجستير من خريجي الدول الغربية او كانوا انفسهم من الدول الاجنبية. تم الآن استبدال هذه القواعد الصلبة بجودة متغايرة. يتعلم المرء في الماجستير العراقي أقل بكثير مما يتعلمه في برنامج الماجستير الرصين من ناحية التفكير الذاتي والنقدي وطرق وأساليب البحث والنشر نظراً لأن مكون البحث هو في الغالب مفترس، او سطحي عديم التأثير أو الفائدة. ثانيا، معظم المشرفين لا يقومون بواجباتهم في الاشراف الصحيح ولا بتعريف الباحث على القواعد واللوائح الخاصة بإجراء وبكتابة البحث العلمي في الجامعة ومتابعتهم لإجراء الطالب للخطوات الأكاديمية.
ليس هذا كل شيء. تتحكم الوزارة في المناهج وتصر على توحيدها. لا يمكن للقسم او الكلية او الجامعة ان تحدد منهجا مغايراً او مختلفا عن الجامعات الاخرى. انه بصورة بسيطة طريقة مشابهة لعملية وضع المناهج في المدارس الابتدائية. باختصار، ليس هناك استقلالية أكاديمية للجامعات.
ومما زاد الطين بلة، أن الجامعات نفسها تخضع لرقابة مُحكمة، وأحد أكثر الأجهزة المهينة التي توصلوا إليها هو تحديد وقت الدوام. يبقى أعضاء هيئة التدريس في الجامعة لعدد محدد من الساعات وعليهم المغادرة في أوقات معينة. هذا يدمر تماما احترام الذات، والاستقلالية الشخصية للتدريسيين. لم يحصل ذلك في السابق ولم يتم القيام به في جامعة بغداد، حيث عملت معيداً. أتحدى أي شخص أن يطلعني على أي جامعة محترمة تنتج أبحاثا عالمية المستوى لا يبقي أعضاء هيئة التدريس الا لعدد محدد من الساعات. إن أعضاء هيئة التدريس الذين يتم التعامل معهم على هذا النحو لن يكونوا ببساطة مبدعين.
وكأن كل هذا ليس كافيا، بدأ اعضاء البرلمان بالإشراف المباشر على الوزارة والجامعات. والأسوأ من ذلك، بدأ السياسيون في تمرير الأوامر لرؤساء الجامعات كما لو كانوا يحكمونها. كيف حدث هذا؟ ابتدأت الحكومة بالسيطرة على الجامعات منذ ان شعر حزب البعث باهميتها في ترسيخ الفكر القومي الشوفيني. وللأسف استمرت هذه السيطرة بعد 2003 عن طريق الاحزاب الحاكمة، وطريقة تقاسمها السلطة، مما أدى إلى تقويض ما تبقى من استقلاليتها.
إذن، هل هناك حل لهذا الوضع؟
نعم، لحسن الحظ هناك حل. إذا منحنا الجامعات حكما ذاتيا، فيمكننا البدء في إحداث تغيير. يجب أن يكون تشكيل مجلس امناء الجامعة والحصول على اعتماد مؤسساتي على رأس أولويات الجامعات. يجب أن يتم تزويدهم بالتمويل الذي يحتاجون إليه، بما في ذلك الرواتب والامتيازات لأعضاء هيئة التدريس ويجب أن يكونوا مستقلين. يجب ألا يكون للحكومة أي سيطرة عليها على الإطلاق. بالطبع البرلمان سيادي ويمكنه تعيين لجنة للتعامل مع شؤونهم إذا لزم الأمر، لكن هذا كل شيء. لا ينبغي أن يكون للجزء التنفيذي من الحكومة أي علاقة بها بخلاف التمويل. يتم تشكيل المجلس الاعلى للجامعات ولا يكون فيه أي عضو من الدولة ويتم انتخاب رئيس كل جامعة من قبل تدريسي الجامعة.
ستضمن هذه التغييرات أن تظل الجامعات التي لديها أفضل أعضاء هيئة التدريس مستقلة بذاتها بدلاً من كبح الاستقلالية الأكاديمية بأسم "الرصانة" والتي في الواقع تم الاضرار بها كنتيجة التدخل الحكومي في شؤون الجامعات.ــــــــــــــــــــــــــــ
الثقافة الجديدة تحاور الاستاذ الدكتور محمد الربيعي https://iraqicp.com/images/pdf/dialogue.pdf
عودة أخرى لموضوع استقلالية الجامعة والحرية الاكاديمية: https://akhbaar.org/home/2013/9/153873.html