في عام 1986م كنا مجموعة من الطلاب الكرد، الدارسون في الاتحاد السوفيتي، نقضي العطلة الصيفية على ساحل البحر الأسود، بالقرب من المنطقة المزمع عقد المؤتمر السوري فيها (سوتشي) بين قرابة مئتي طالب من معظم دول العالم. كان يشرف علينا المسؤول الروسي عن الأجانب من جامعة موسكو، التي كنت أحاضر فيها لنيل شهادة الدكتوراه، وكان لي معرفة به، لم أستسيغه يوماً.
بعد أسبوع من وصولنا تم التحضير لمسيرة طلابية ضمن المنتجع، بمناسبة يوم الشرق الأوسط. طلبنا من المسؤول، ككرد، أن تكون مجموعتنا مستقلة عن الدول المحتلة لكردستان، وبلافتاتنا الخاصة. وكانت الشعارات تطبع على اللافتات بعد الموافقة، فحينها برز جدال بيننا وبين المسؤول، وتطور إلى أن سألنا وببسمة فيها مسحة من التهكم، السؤال الذي كثيراً ما نسمعه من المناهضين للقضية الكردستانية، ويلوحه العديد من السياسيين والمثقفين العروبيين والأتراك والفرس، عندما تضعف الحجة عندهم أمام أحقية القضية الكردستانية، " "هل كانت هناك دولة باسم كردستان في التاريخ؟” أي هل هناك وجود تاريخي لكردستان؟ وهل كان للكرد كيان سياسي سابقاً؟ عملياً السؤال وبشكل عام يضمر معناً مغرضاً فيه الكثير من الحقد قبل البعد المعرفي. ولسان حال معادي الشعب الكردي يقول، هل الكرد شعب يستحق بأن تكون لهم دولة، أو هل هم يعرفون أو لهم القدرة على إدارة الدولة؟ تعكس في عمقه الصور النمطية الدونية عن الشعب الكردي، والتي رسختها الأنظمة الشمولية الفاسدة عنهم.
سؤال قد يؤدي إلى رد فعل غير منطقي من قبل شريحة من الإخوة الكرد، ولكن وعند التمعن سيتبادر إلى ذهننا في مواجهة هذا السؤال، عدة أوجه تعكسها السؤال بحد ذاته، بغض النظر عن الجواب، ومنها جهالة طارحيها بتاريخ كردستان، أو التغاضي عنه عمداً، وتعمد الأعداء على فبركة تاريخنا وتاريخ المنطقة بشكل عام، وضعفنا مقابل ما نشروه عن الكرد من تاريخ مزور، وعدم قدرتنا على إعادة ما تم إتلافه وتضييعه، أو إحياء الصفحات الحضارية لثقافة وآداب الكرد التي عبثت بها القبائل العربية الغازية البدائية أولا والفارسية بدءً من دولتهم السامانية ومن ثم الصفوية فيما بعد وأكملتها العثمانية، إلى أن أتممت عليهم فرنسا وبريطانيا.
من صفات الشعوب الضعيفة والمغلوبة على أمرها، ومن بينهم نحن الكرد، تجريم الإمبراطوريات والدول المهيمنة على ما هم عليه من الضعف، متناسين أنه هناك عوامل أخرى ساهمت على بقائنا تحت هذا المصير المؤلم، واستمرارية هذا القدر. والرد المباشر على ذاك السؤال سيكون خالياً من الحكمة، وهو ما ينتظره عادة الشخص الطارح، ومن الحكمة معرفة فيما إذا كان لصاحبها أية خلفية تاريخية ليس فقط عن الشعب الكردي بل عن المنطقة ككل؟
علينا أن ندرك حقيقة، وهي أن قضية الأمة الكردية، أو أية أمة، لا تتعلق بوجود كيان سياسي أو عدمه، فهناك العديد من الشعوب لها دول وأنظمة سياسية، لكنها تعيش المآسي، أو وفي عزلة عن أنظمتها، وبعضها تناضل من أجل قضايا وليست فقط قضية إثبات وجودها أو عدمه، وتعمل المستحيل لإسقاط سلطاتها، فالحدود السياسية التي تشكلت في بدايات القرن الماضي أو على شاكلتها لم تقدم حلولاً مرضية لشعوبها، وهي ليست بالنماذج التي يجب أن تقاس عليها الجغرافيات الماضية للشعوب، فالشعب الكردي أو الأمازيغي أو غيرهم كانوا وعلى مر التاريخ ورغم مرور إمبراطوريات على جغرافيتهم، أصحاب أرض، هم مالكوها الأصلاء بأغلبية ديمغرافية ساحقة، قبل أن تظهر إلى الوجود الدول الحديثة بل وحتى الإمبراطوريات السابقة التي زالت أو التي بنيت على ركامها الدول الحاضرة، ونحن هنا لا ننوه إلى الدول والكيانات السياسية التي أسسها الكرد تحت أسماء مختلفة، أو شاركوا فيها، بل عن جغرافية كردستانية متكاملة العوامل قابل ليكون كيان سياسي قائم بذاته.
العودة إلى التنقيب عن صفحات التاريخ، وتذكير من يحتاج إلى تذكيره، سيكون عبثاً، فلو كانوا فعلا يبحثون عن معرفة، لوجدوا المئات من الدراسات الأكاديمية التي تبين مدى العمق التاريخي للوجود الكردي في كردستانه، حتى وإن كانت تعرف في الماضي السحيق بأسماء أخرى غير كردستان، والتنوع في الصفات والأسماء التي عرفت بها كياناتهم السياسية، إن كانت إمبراطوريات أو إمارات أو سلطنات، دلالة أخرى على شمولية عراقتهم الراسخة في التاريخ، وهي من أهم الأسباب التي ساندت الأمة الكردية بعدم ذوبان ديمغرافيتها، والحفاظ على لغتها ضمن جغرافيتها الكردستانية رغم الكوارث والمؤامرات التي خططت لها القوى المعادية، لإذابتهم أو تهجيرهم، وعدم الضياع أمام اجتياحات اللغة العربية عن طريق الإسلام والنص الإلهي، مثلما حدثت للعديد من شعوب المنطقة واستعربوا، ولا داعي هنا إلى تذكير البعض بأسمائهم وأسماء الكيانات السياسية الكردية الماضية، والدخول في سجالات عقيمة مع من ينكرونها سلفاً لحقد أو عن جهالة.
كما وعدم ظهور كيان سياسي في بداية القرن الماضي أو على صفحة التاريخ باسم كردستان تيمماً بالدول التي أنشأها الاستعمار البريطاني-الفرنسي في المنطقة أو الماضية المسجلة لاحقاً تحت الصفة القومية، لا تلغي حق الشعب الكردي بإقامة كيانه السياسي الخاص به في هذه المرحلة أو اللاحقة، وعلى جغرافيته، وبالاسم الكردستاني، وسوف لن تكون كالكيانات اللقيطة التي لم تقدم ذاتها أو ترقى إلى الصفة القومية لشعوب تلك الدول، كدولة لبنان وقطر والبحرين والسودان وإيران وحتى السعودية وغيرها، وبرزت على الساحة بالصفات القبلية أو العائلية، أو تدعي الأمة مجازاً، وتستخدم الغطاء القومي لترسيخ مصالح شريحة على مصالح الأمة، أو كتلك التي تتحدث باسم قومية وهي ليست بأكثر من أنظمة استعمارية للشعوب الأصلية، أصحاب الأرض، كتركيا ودول شمال أفريقيا، ودول أخرى ومن بينها المحتلة لكردستان. وفي الفترة الأخيرة وبعدما التهبت الشرق الأوسط بدأ معظم هؤلاء يروجون للمفهوم الوطني للحفاظ على تماسك جغرافياتهم المتعارضة مع جغرافيات شعوب المنطقة، متخليين عن الاستنادات التاريخية لتشكل كياناتها السياسية، وتركوا التلويح بصفحات التاريخ المفبرك والمزور، خاصة بعد أن تعرت خدعهم على أثر الثورة التكنلوجية الانترنيتية.
ورغم كل هذا، وفي خضم الثقافات العنصرية المتلاطمة والمهيمنة على شعوب المنطقة، وخاصة التي ترسخها الأنظمة الشمولية العنصرية، سيبقى السؤال المبطن حاضراً في لا شعور المعادين للقضية الكردية، دون انتظار الرد المناسب أو البحث عنه، مثل الجواب الذي لن يقنعهم مهما كان حكيما ومنطقياً.
وبسبب الأحداث المتلاحقة، تم تجاوز هذا السؤال في هذه المرحلة، وزاد مخاوفهم لاقتراب فرصة الشعب الكردي بالظفر لحقوقه، فيكثرون من الحديث عن الوطنية، ويلوحون بالدولة المدنية، لانثناء الكرد عن هدفه.