يعتقد الكثير من شبيبة اليوم خاصة أولئك الذين شهدوا إسقاط الولايات المتحدة لنظام صدام حسين وحزبه، بان ما حصل في البلاد وخاصة ظهور الطائفية المذهبية والتفرقة الدينية أو الإقصاء العرقي والقومي بهذا الشكل المفرط، هو وليد هذه المرحلة أي مرحلة ما بعد تولي معارضي نظام البعث دفة الحكم، وخاصة الأحزاب الدينية أو المذهبية، التي عاشت وترعرعت في ظل وكنف مجموعة من المدارس والمعتقلات السياسية ومنهاجها المعروفة، ابتداءً من مدرسة الزعيم ومقاومته الشعبية مرورا بمدرسة البعث وحرسه وجيشه القومي والشعبي،  وانتهاءً بما أنتجته تلك المدارس من تجارب يتم استنساخها اليوم، والإبداع في تطوير أساليبها بمختلف المناهج وممارسات أنظمتها السياسية والقمعية، تلك المدارس التي كرست مفاهيم السلطة الفردية والحزب الواحد وطرق هيمنته واندساسه في كل مفاصل الدولة وزراعة العيون والآذان في كل دائرة ومدرسة ووحدة عسكرية على طريقة جمهورية جورج اورويل في روايته (1984) حتى غدت الدولة برمتها عبارة عن منظومة كاميرات للمراقبة والتصنت.*

 

   هذه المدارس والغيوم السوداء التي سادت سماوات العراق وأراضيه بعد تأسيس مملكته بسنوات، أشاعت ثقافة اقصائية وازدرائية من قبل معظم النُّظم السياسية العراقية ضد مكونات دينية ومذهبية وعرقية وبأشكال مختلفة ووسائل متعددة، باستثناء فترة قصيرة جداً من الحكم الملكي، وتحديداً في السنوات الأولى لتأسيس المملكة العراقية، والى حدٍ ما فترة أقصر من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، وما عداها ومنذ انقلب البعثيون وحلفائهم على نظام الزعيم قاسم، حكم البعثيون البلاد منذ شباط 1963 وحتى إسقاطه في نيسان 2003، مع وجود فترة قلقلة بين 1963 و 1968 التي انقلب فيها العوارف على الحرس القومي، لكنهم لم يختلفوا في نهجهم السياسي عما سبقهم إلا بالعناوين والأسماء.

 

   لقد مورست ضد المكونات (الأصغر) سواءً كانت قومية أو دينية مذهبية كل أنواع الإقصاء باستخدام وسائل دعائية اجتماعية، تزدري تلك المكونات بفيض من النكات والطرائف التي تظهرها بشكلٍ ساخر أو منتقص، وتشكك في أهليتها، بل وتهينها في نهجها الديني أو انتمائها العرقي، ونتذكر جميعا طوفانات النكات والقصص أو الطرائف المفبركة التي كانت أجهزة المخابرات وبعض المؤسسات تقوم بنسجها وإشاعتها للتداول بين الأهالي، وليس ببعيد عن الذاكرة تلك التي كانت تستهدف جنوباً (الشروك والمعدان) وازدرائهم وإظهارهم بأنهم أُناس بدائيون وأجلاف، وشمالاً الكورد والتركمان والمسيحيين عموما، الذين ينتقصون من آدميتهم ومواطنتهم بأنماط من القصص والنكات المفبركة، التي تظهرهم أغبياء وحمقى، وكذا الحال غرباً مع (الدليم والمصالوة) كما كانوا يقولونها، وإظهارهم بالبخل والحماقة والتخلف.! 

 

   في حصيلة سنوات طويلة من ممارسة هذا الكم الهائل لثقافة الانتقاص والاستهزاء، تكلست أنماط من الكراهية والازدراء بين مفاصل اجتماعية واسعة من المكونات، التي تعرضت جميعها إلى هذا النمط من التسقيط والاستصغار، سواء بين الكورد والعرب، أو بين السنة والشيعة، وبقية المكونات، ناهيك عن عقدة ابن المدينة من الريفي أو (الجرياوي أو الكوندي بالكوردية) واعتباره دوما منتقص المدنية ومحط السخرية، مما أنتج مع وجود بيئة صالحة لتفعيل هذه الأحاسيس المليئة بالكراهية، ما نشهده اليوم من طائفية وعنصرية مذهبية وقومية وحتى مناطقية، وصلت إلى حد الإقصاء والالغاء والتكفير ومن ثم إباحة القتل والابادة، تصل في ذروتها الى دعوات لحرب مقدسة.

 

   وما يجري اليوم من عمليات تطهير مذهبي وعرقي في المناطق المختلطة عمل على إحداث تمزيق شديد في البنية المجتمعية للسكان، وهذا ما نشهده اليوم في نينوى والأنبار وصلاح الدين وأطراف بغداد وشمال الحلة وكركوك وديالى، مما ينذر بخطر داهم يضعنا جميعاً أمام مسؤولية تاريخية ووطنية إزاء حرب ستحرق الأخضر واليابس، ولن تكون نتائجها أفضل من تلك النتائج التي وصل إليها البعثيون وغيرهم في تحويل العراق إلى حفنة تراب، وضياع فرص ذهبية لتقدمه وتطوره ووجوده.

 

   وصدق من قال هذا المطر من ذاك الغيم!

 

* رواية 1984 التي كتبها الصحفي البريطاني جورج اورويل George Orwell في عام 1949م.