يتمحور خطاب الليبرالية الجديدة _ كما تمت الاشارة اليه في الحلقة الاولى _ بشكل أساسي على الخصخصة والسوق المتحررة من ضوابط الدولة، كما يزعم الليبراليون أن الاقتصاد الحر وانفتاح أسواق الدول النامية على التجارة الحرة تعتبر من أهم الاشتراطات لتعزيز الحرية الفردية وإرساء قيم الديمقراطية، على اعتبار إنه يتعذر على رأس المال ممارسة نشاطاته الاستثمارية إلا في ظل حكم القانون وضمان شروط التعاقد وحماية الملكية الفردية. حازت تلك الافكار على قبول شريحة واسعة من المثقفين الحالمين بخلاص شعوبهم من قبضة الاقتصاد المغلق وما رافقه من تعسف وقمع الدكتاتوريات في الدول النامية، إلا أن إعادة قراءة صفحات العنف من تأريخ الرأسمالية ومنذ نشأتها الاولى باسم التجارة الحرة تشي بعكس ذلك تماماً.
احدى الوظائف الأساسية للدولة الرأسمالية حماية النظام من نفسه عبر وضع الحلول الممكنة لازماته والتخفيف من تبعاتها ومحاولة أنسنة الطابع المتوحش للنظام أو التقليل من آثاره على الأقل ، غير أن الرأسماليين الذين ليس من انشغالاتهم سوى تكديس الأرباح يستشيطون غضبا إزاء أي ضوابط او محددات تضعها الدولة بحجة انتهاك حرية السوق واستقلاليته.
في مستهل القرن التاسع عشر أصدرت الحكومة البريطانية قانوناً يمنع عمل الصغار دون سن التاسعة وتحديد ساعات عمل الاطفال في المصانع بما لا يزيد عن 11 ساعة يومياً ، وذلك لموت وإعاقة أعداد كبيرة من الاطفال في ظروف عمل مزرية على مكائن خطرة، فشن أصحاب المصانع حملة شعواء على القانون الذي ينتهك بزعمهم حرية سوق العمل - الحرية التي تضع الآباء أمام خيار الموت جوعاً أو تشغيل ابناءهم بعد بلوغ سن الخامسة -.
باسم التجارة الحرة أيضاً كان زحف الامبراطوريات الاوربية وفتوحاتها الاقتصادية وما رافق ذلك من مجازر وحروب، فالتجارة الحرة كما تم تسويقها آنذاك - تتيح للرجل الابيض المتحضر التواصل مع الشعوب المتخلفة لتبليغ رسالته الحضارية ونشر القيم الأوربية - الصياغة القديمة للمزاعم الحديثة في نشر الديقراطية وحماية حقوق الانسان اليوم -، وقد يشكل تأريخ شركة الهند الشرقية نموذجاً مثالياً لتلك الحقبة.
حازت تلك الشركة عام 1600 على ترخيص الملكة إليزابيث لاحتكار التجارة الخارجية، ثم تم ترخيصها بعد ذلك كشركة مساهمة، وقد نمت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى أصبحت دولة تعداد جيشها 260 ألف مقاتل، أي ضعف جيش الدولة الأم بريطانيا، وقد احتلت و نصبت حكامها وادارييها في مقاطعات الهند، واحتكرت التجارة في ثلثي العالم. أجمع المؤرخون على أنها من أكبر و أكثر المنظمات الارهابية وحشية على مر التأريخ، ولم يكن تقطيع أصابع العمال في مصانعها بالسيف من أسوأ ما مارسته من إرهاب، فقد ارتكبت كبرى المجازر بحق السكان المحليين وشنت سلسلة من الحروب الطويلة على أفغانستان والصين وكل من ينافسها بالنفوذ. كانت تفرض ضريبة خراج على الأرض بلغت 50 % من المحصول، وقد أحرقت محاصيل الخضار والحبوب، ثم خصصت معظم الأراضي لزراعة الافيون، تلك الاجراءات مجتمعة إضافة الى أولوية إطعام جنودها في الحروب التي لم تتوقف، أدت الى سلسلة من المجاعات مات فيها جوعاً 10 ملايين من سكان البنغال. رغم ذلك لم بشأ قادة الشركة_الدولة مراجعة سياساتها، طالما أن الأفيون يجلب لها أرباحاً طائلة بمقايضته في الصين مقابل السيراميك والخزف والشاي -البضائع المرغوبة في أوربا- ، وحين قرّر امبراطور الصين منع دخول الافيون لبلاده لحماية رعاياه من تعاطي المخدرات، صبت اوربا جام غضبها في حربي الافيون ودكت هونغ كونغ بالمدافع حتى أذعنت الصين للتبادل التجاري بالشروط الأوربية.
قد يرد في ذهن القارئ ان ما تقدم يعود الى ماض غابر، وأن تطوراً كبيراً قد طرأ على المنظومة القيمية للمجتمع الدولي المعاصر ومفاهيم حقوق الانسان، إلا ان التاريخ المعاصرهوالآخر مثقل بالشواهد التي تنفي مزاعم الليبرالية الجديدة بتناغم الديمقراطية وحكم القانون مع الانفتاح الاقتصادي و الوصفة السحرية لصندوق النقد الدولي، بل أن معظم تجارب الليبرالية الجديدة تتقدم فيها الارتال العسكرية أمام الاقتصاديين ورجال الأعمال والشركات وبدعم عسكري ومخابراتي من دول المركز، ثم تبدأ وسائل الاعلام بأعلان بشرى ولادة معجزه إقتصادية وفجر ديمقراطي جديد، حتى تتكشف التفاصيل والوثائق السرية بعد عقود لنكتشف أن صناعة الموت قد حصدت الأرواح بصمت وأن ماكنة الليبرالية قد أنتجت جيشاً متعباً من الفقراء بجوار الثراء الفاحش وبلداناً تئن تحت ضغط ديون هائلة لم تشهدها من قبل.
كانت اندونيسيا واحدة من اولى ضحايا اللبرلة الاقتصادية بعد اسقاط حكومة سوكارنو الائتلافية والتي وحدت جميع الطوائف والأديان والقوميات في نسيج اجتماعي متماسك دون إهدار قطرة دم. لم يشأ سوكارنو تسليم مقدرات بلاده لشركات الغرب الكبرى، فقد أدرك أن التطور الاقتصادي يبدأ بترميم المؤسسات الادارية والصناعية وتمتين البنية التحتية و تطوير المنظومة القانونية بما ينسجم مع ظروف البلاد الداخلية وحماية المنتوجات المحلية بسياسات حمائية حتى تصبح البلاد نداً قادراً على التنافس في السوق العالمية، تلك هي السياسات الداخلية التي اتبعتها جميع دول المركز في بداياتها الصناعية ولم تروج للأقتصاد الحر إلا بعد أن تعملقت إقتصادياً وأصبحت لها اليد الطولى في العالم. لم ترق توجهات سوكارنو للشركات والحكومات الغربية فنسقت مع الجنرالات بقيادة سوهارتو للاطاحة بالحكومة والشروع بالخصخصة وبيع مؤسسات القطاع العام للشركات الأجنبية. وصف أحد المسؤولين في حكومة الدكتاتور سوهارتو ان الشركات الامريكية والبريطانية قد تقاسمت قطاعات الدولة فيما بينها دون اي إستشارة لمندوبي الحكومة الاندونيسية. أعقب ذلك دور وسائل الاعلام الغربية في حملة ترويج للتجربة الاندونيسية على أنها " شعاع الشمس الذي أشرق في آسيا" بتعبير نيويورك تايمز، وقد أعلن البنك الدولي انها المعجزة الاقتصادية التي ستكون نموذجاً يحتذى به في آسيا. وتم التعتيم الكامل على مجازر سوهارتو بدعم من القوات الامريكية والبريطانية و التي راح ضحيتها ما لا يقل عن نصف مليون مواطن بجانب آلاف المعتقلين. تم تدمير القرى والغابات لانشاء المصانع ومناجم التعدين وبلغ تلوث المياه مستويات خطيرة، وتضاعف عدد الفقراء ليبلغ 70 مليونا، بينما يشيع الصندوق الدولي انتشال 30 مليوناً من الفقر، أما العمال في المصانع الاجنبية فلم تكن ظروف عملهم وسكنهم أفضل بكثير من أقرانهم في القرن التاسع عشر ، وعلى الضفة الاخرى من المجتمع برزت طبقة فاحشة الثراء عظيمة النفوذ .
أجبرت الانتفاضة الشعبية التي أعقبت إنهيار الاقتصاد عام 1997 م سوهارتو على الاستقالة وفي حوزته المليارات، وفي رقبة الشعب دين يزيد على 160 مليار دولار، وقد اعترف صندوق النقد الدولي أن ما يزيد على 20 % من القروض قد سرقت من قبل سوهارتو وحاشيته، وبعد ثلاثة عقود من تلميع صورة الدكتاتور بدأ الاعلام الغربي يصف حكومته على انها الأكثر وحشية في آسيا.
لم تكن تجربة اندونيسيا إستثناء، فقد تكرر السيناريو ذاته في الفلبين إبان حكم الدكتاتور ماركوس، الذي ترك البلاد مثقلاً بدين قدره 26 مليون دولار تدفع عليها 44 % من الدخل القومي كفوائد فقط، بينما يصرف على الصحة ما يعادل 3% ، و ارتفعت نسبة الفقر من 10% إلى 70 %، وحين أعلنت الرئيسة المنتخبة أكينو ان الشعب الفلبيني غير ملزم بدفع الديون التي لا يد له فيها، تعرضت الى ضغوط هائلة جعلتها تذعن لشروط صندوق النقد الدولي والمصارف الاجنبية. من الجدير بالذكر أن الديون كمصيدة لارتهان البلد وديمومة تبعيته أمر معروف منذ بناء قناة السويس بقروض بريطانية وفرنسية، إلا أن الخديعة ما زالت تنطلي على الكثيرين منا.
خصخصة الاقتصاد في بلدان اميركا اللاتينية باتت قصة معروفة إبان حكم الهونتا - الدكتاتوريات العسكرية - التي نفذت سلسلة من الانقلابات بدعم مباشر وغير مباشر من قبل الولايات المتحدة والتي أغرقت بلدانها بالدم والديون والحروب الأهلية.
أما تجربة تشيلي فقد أصبحت مثالاً صارخاً وفضيحة مدوية لليبراليين الجدد، حين كشفت الوثائق أن الانقلاب العسكري للجزار بينوشيه والاطاحة بحكومة الليندي المنتخبة، قد تم بالتنسيق بين الادارة الامريكية وجهاز ال CIA مع مدرسة شيكاغو الاقتصادية - وهي مؤسسة فكرية تعني بتطوير وترويج الفكر الليبرالي الجديد ويرأسها الاقتصادي ملتون فريدمان.
تلك التجارب وغيرها الكثير إضافة الى ما نشهده اليوم من حروب وفتوحات اقتصادية تحت شعار نشر الديقراطية أو الحرب على الارهاب تشير بوضوح الى زيف الادعاء الليبرالي الذي يزعم أن لبرلة الاقتصاد ستدخلنا الى فردوس الحرية والديمقراطية وحكم القانون.
المصادر:
حكام العالم الجدد.... جون بيلغر
معضلة العولمة... داني رودريك
الليراليه المستبدة.... د. رمزي زكي
الليبرالية الجديدة.... ديفيد هارفي
The Shock Doctrine .... Naiomi Klien
Globalization and Its Discontent .....Joseph Stiglit