مع أواخر عقد السبعينيات وبتولي صدام حسين مقاليد السلطة برمتها، اتجهت عقارب ساعة النظام إلى مرحلة جديدة دشنها ( الرئيس القائد) بالقادسية الثانية، التي ابتلع فيها (حزب الأمة) أو (علس) كما تقول الدارجة العراقية، تلك الكائنات السياسية المسخ تدريجيا، وانتفت الحاجة لأحزاب الزينة الملساء التي بدت أكثر رخاوة، وربما تبخرت تدريجيا أو اندمجت اندماجا قذافيا، بعد أن منح أعضائها نفس درجات الرفاق في حزب الأمة العربية المجيدة، فلقد برزت مع المرحلة الجديدة أمور أكثر زينة وبهرجة للمشهد السياسي والاجتماعي العراقي من الأحزاب، في دولة الانتصار على (العدو الفارسي المجوسي الإمبريالي) إلى آخر قائمة التسميات التي أنتجتها دوائر الدعاية والإعلام البعثي ضد معارضيه، حتى وان كانوا ملائكة أو ممن يتغدون ويتعشون مع الأنبياء والرسل، والتي ما زالت تستخدم بجدارة من تلاميذ ومريدي (القائد الضرورة) حتى يومنا هذا، ومن أكثر الأمور التي تجاوزت إثارتها أحزاب الزينة في تلك الفترة، هي أنواط الشجاعة والأوسمة والنياشين والأيام والمناسبات التي كثرت أسماؤها وعناوينها، حتى لم نعد نفرق بين واحدة وأخرى، إضافة إلى الرتب التي كانت تمنح كل رأس شهرٍ أو كل ستة أشهر، بحيث كنت ترى الجيش العراقي يتزين بشباب لم ( تخط شواربهم بعد ) وهم يحملون رتبة لواء أو عميد أو عقيد، كما يفعل الآن مقلدوا النظام السابق ومريدوه في ثقافة (الدمج) المقدس!؟
ولكي تكتمل مشاهد الزينة خاصة بعد تبخر الأحزاب المستنسخة، ابتكر ( رفاق العقيدة والسلاح) شعبة لشيوخ العشائر في ديوان الرئاسة وتم تصنيف هؤلاء الشيوخ إلى ثلاث موديلات وهي شيوخ (أ) وبعدها (ب) وآخرها (ج) وقد عرف هؤلاء الشيوخ بشيوخ التسعين، ولم ينسو تزيين السنة العراقية فجعلوا معظم أيامها أعيادا ومناسبات مقاربة لعدد أيام السنة الكبيسة أو الحبيسة، لدرجة إن العراقي لا يستطيع ( حك رأسه ) من كثرة الاعياد والمناسبات ، فذاك يوم البيعة والآخر للنخوة، وهناك للميلاد والربيع والشجرة، وبقربه للبيعة والشرطة وبجانبه يوم الأيام، وهكذا كان العراقيون يرقصون على أنغام وطن شد على الأفق جناحا منذ مطلع الفجر وحتى الليل الأخير من اليوم ذاته، لتستمر تلك الأيام والأعياد بالتكاثر والتوالد حتى جاءت الحواسم في نيسان 2003 وانتهت حقبة مزينة بالدماء وأشلاء الضحايا، وأنغام الأكاذيب والشعارات الفارغة وعساكر البهرجة والانكشاريات الشعبية و( الكشخات ) المزرية، التي ابتكرها نظام من أكثر نظم العالم دكتاتورية طيلة أكثر من ثلاثين عاما عجافا.
لكن إسقاط هيكله الإداري لم يسقط تلك الثقافة البائسة والتربية المنحرفة ولم تسقط مع سقوط التجربة المريرة في العلاقات مع معطيات الحياة في حقولها المختلفة، في عراق يتدحرج إلى الأعلى تارة ويتسلق إلى الحضيض تارة أخرى، فعادت فيروساتها تنشط من جديد منذ الأشهر الأولى لسقوط النظام، لكي تنمو في ذات البيئة التي أنتجتها الأحزاب التي ورثت الحكم بشكل مضطرد خارج أجواء المختبرات هذه المرة، لتتميز بتفوقها أكثر من الجيل الأولى كونها تخرجت من أقبية مخابرات دول الجوار، وأضافت لأيام العراقيين عطلات ومناسبات أفضلها حزين وأتعسها حائر باليوم الوطني للدولة العراقية؟
لقد عادت ماكينة تصنيع أحزاب الزينة ثانية لإنتاج موديلات أكثر حداثة وشيطنة، حيث تم تدجين أفرادها في عواصم الدق والرقص على أنغام ذبح العراقيين وسرقة خزائنهم، سواء في دول الجوار أو ما بعد الجوار، فامتلأت مسارح ومعارض السياسة الجديدة في العراق بأحزاب لا للزينة فحسب، وإنما للتوحش والتقهقر والقباحة والسرقة والإفساد، وغصت مدن العراق بمقرات أحزاب وأسماء أمناء عامين ومكاتب سياسية رنانة، تم تصنيعها وفبركتها إما في ما تبقى من تنظيمات حزب البعث ورجال مخابراته واستخباراته، ممن انقطعت بهم السبل بين الشعارات التي كانوا يتداولونها صباحا ومساءا، والنتيجة ما حصل لهم ولنظامهم خلال اقل من عشرة أيام لدولة تم بناؤها في أكثر من ثلاثين عاما، إضافة إلى ما أنتجته دهاليز مخابرات الدول الجارة والعزيزة، من موديلات جديدة ومحدثة حيث أضافت لها قوات مسلحة على شكل ميليشيات تحكم باسم الرب ووكلائه على الكوكب، وبدلا من حزب واحد لله أصبح لدينا عشرات الأحزاب الربانية كلها تنطق باسمه وتنفذ شريعته، وأصبح بمقدور أي إمام جامع في قرية أن يفتي أو يشرعن قانونا واجتهادا في الجهاد والنكاح، حتى غرقت البلاد ببحر من الدماء والدموع.
وللبحث صلة...