ماجد سوره ميري/ رغم مرور أكثر من عقدين على سقوط النظام العراقي السابق في عام 2003، لا يزال الكورد الفيليون، وهم من أقدم وأعرق المكونات العراقية، يرزحون تحت وطأة التهميش السياسي والإداري، بعد عقود من الاضطهاد الممنهج الذي طال هويتهم، وجودهم، وحقوقهم المدنية.

من التهجير إلى التهميش الجديد

الكورد الفيليون هم مكون كوردي (شيعي)، تمتد جذورهم في العراق لقرون، ويتوزعون جغرافيا بين بغداد، وديالى، وواسط، وميسان، فضلا عن مدن كوردستانية كخانقين ومندلي وبدرة وجصان وكركوك. بحسب تقديرات غير رسمية، يتراوح عددهم بين 1.5 إلى 2 مليون نسمة، يشكلون بذلك نسبة لا يستهان بها من سكان العراق. إلا أن هذا الثقل السكاني لم يترجم حتى الآن إلى تمثيل سياسي يعكس حجمهم الفعلي أو يسهم في ضمان حقوقهم.

وقد تعرّض الفيليون خلال حقبة النظام البعثي إلى حملة تهجير قسرية بدأت في سبعينيات القرن الماضي، وبلغت ذروتها بين عامي 1980–1988، حين تم سحب الجنسية العراقية من مئات الآلاف منهم، وتم تهجيرهم قسرا إلى إيران بذريعة "أصولهم الإيرانية"، في حين أن غالبيتهم الساحقة كانت تحمل الجنسية العراقية أبا عن جد. وترافقت هذه الإجراءات مع مصادرة واسعة لممتلكاتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة، وإعدام الآلاف من شبابهم في السجون والمعتقلات.

الكوتا الفيليّة: إنصاف أم تمييع؟

بعد سقوط النظام، وبعد التي واللتيا تم تخصيص مقعد كوتا واحد للكورد الفيليين في مجلس النواب العراقي في محاولة رمزية لـ"جبر الضرر" وتمثيل هذا المكون، ووقع الاختيار على محافظة واسط لاحتضان هذا المقعد باعتبارها من المحافظات التي تشهد حضورا فيليا تقليديا.

لكن مع الوقت، تحول هذا المقعد إلى ما يشبه "الجائزة الانتخابية" للقوى السياسية الكبرى، خاصة بعد أن تم تحويله من مقعد مخصص لمحافظة واسط إلى مقعد كوتا وطني، ما أتاح لجميع القوائم الانتخابية التنافس عليه دون مراعاة للهوية الاجتماعية أو قاعدة التمثيل المجتمعي.

في انتخابات 2021، على سبيل المثال، رصدت محاولات من بعض الأحزاب السياسية للزج بمرشحين لا يملكون امتدادا حقيقيا في الأوساط الفيلية، بل ولم يعرفوا سابقا بالنشاط في قضايا هذا المكون، في محاولة لاستثمار المقعد لأغراض سياسية بحتة.

واقع سكاني يُغفل عمدا

تشير معظم التقديرات السكانية المستقلة إلى أن العاصمة بغداد تحتضن اليوم ما بين 800 ألف إلى مليون كوردي فيلي، ما يجعلها أكبر تجمع فيلي على مستوى العراق. ومع ذلك، لا يتمتع الفيليون في بغداد بأي تمثيل نيابي مباشر، بل إن مقعد الكوتا الوحيد لا يعبّر لا عن هذا الامتداد الديموغرافي، ولا عن المطالب السياسية والاقتصادية والاجتماعية لأبناء هذا المكون.

بحسب مبدأ التمثيل السكاني النسبي المعمول به في النظم الديمقراطية، فإن مليون نسمة تعادل قرابة 5 مقاعد نيابية على الأقل، ما يعني أن حصر تمثيل الكورد الفيليين بمقعد واحد هو بمثابة إقصاء ممنهج، مغلف بغلاف "الرمزية التمثيلية".

ممارسات إقصائية مستمرة

لم تتوقف معاناة الفيليين عند حد التمثيل النيابي المحدود. إذ لا يزال الآلاف منهم محرومين من استعادة الجنسية العراقية رغم مرور أكثر من 40 عاما على إسقاطها تعسفا، ما يحرمهم من الحقوق السياسية والمدنية، بما في ذلك الترشح والانتخاب، والتوظيف في المؤسسات الحكومية، والحصول على الوثائق الرسمية.

في المقابل، لم تتخذ الحكومات العراقية المتعاقبة أي خطوات جادة نحو تسوية الملفات القانونية للمُهجّرين، ولا نحو رد الاعتبار القانوني والرمزي لضحايا الإعدامات والمجازر التي ارتُكبت بحق هذا المكون. كما لا توجد برامج رسمية لإعادة دمج الفيليين في مؤسسات الدولة، أو لاسترداد ممتلكاتهم المصادرة، رغم صدور قرارات قضائية لصالح بعضهم من قبل "هيئة دعاوى الملكية".

الكوتا كأداة احتواء رمزي

في ظل هذه المعطيات، يبدو أن مقعد الكوتا الفيلي قد تحوّل من وسيلة للتمثيل العادل إلى أداة احتواء رمزي تُستخدم لتجميل صورة النظام السياسي أمام الداخل والخارج. فالمشاركة السياسية لا تُقاس بعدد المقاعد بقدر ما تُقاس بالقدرة على التأثير في السياسات العامة، والدفاع عن الحقوق، وصياغة التشريعات، وكل ذلك يغيب عن النائب الفيلي "الشكلاني" الذي يُفرض من خارج البيئة المجتمعية التي يفترض أن يمثّلها.

بل إن التمثيل النيابي الحالي غالبا ما يكون مفروضا من قبل أحزاب تفتقر لأي امتداد حقيقي بين الفيليين، ما يجعل من مقعد الكوتا أداة فارغة المضمون، لا تعكس حجم المظلومية التاريخية ولا الاستحقاق السياسي والديموغرافي.

مطالب مستحقة ومؤجلة

إن المطالبة بإعادة مقعد الكوتا إلى محافظة واسط، رغم رمزيتها، لا يجب أن تُختزل بإجراء فني أو تقني ضمن مفوضية الانتخابات، بل يجب أن تُفهم ضمن سياق العدالة التمثيلية التي تقوم على مبادئ واضحة: الجغرافيا، الثقل السكاني، والهوية المجتمعية.

كما أن إعادة تقييم تمثيل الفيليين يجب أن يشمل تخصيص مقاعد نيابية جديدة في بغداد وديالى، والمعالجة القانونية الشاملة لملف الجنسية، والتعويض المادي والمعنوي للمهجرين، بالاضافة الى ضرورة إدماج الكفاءات الفيلية في مؤسسات الدولة، لا سيما في الأجهزة التشريعية والتنفيذية، فضلا عن الاعتراف الرسمي بما جرى من جرائم بحقهم كمكون وطني.

عدالة مؤجلة ومشاركة غائبة

لا يمكن الحديث عن بناء دولة عادلة وتعددية في العراق دون تحقيق مشاركة سياسية حقيقية لجميع مكوناتها، وفي مقدمتهم الكورد الفيليون، الذين كانوا وما زالوا جزءا لا يتجزأ من النسيج الوطني العراقي، وقدموا تضحيات جسيمة من أجل وحدة البلاد.

الفيليون لا يطالبون بمنحة أو صدقة سياسية، بل بحقهم المشروع في التمثيل العادل، والمواطنة الكاملة، والعدالة الانتقالية. وهم لا يستحقون مقعدا شكليا في البرلمان فقط، بل اعترافا صريحا بتاريخهم، وإعادة إدماجهم في مستقبل العراق بوصفهم شركاء حقيقيين، لا مجرد أرقام انتخابية أو أدوات سياسية ظرفية.