محمد جواد/ كل شيء جميل في الشمال العراقي، خانقين ومندلي وغيرها من القرى والدساكر تتدلل وسط طبيعة خضراء وهواء عليل ينعش الروح ومناخ جميل جداً، الجداول الصغيرة وخرير مياهها كأنه قطعة موسيقية، والثلج الذي يغطي الجبال كأنه رمز للحرية. ينتشر الأولاد في كل الأماكن لجمع الورود والأزهار ولقطف ثمار اللوز الخضراء والندية.
ليل خانقين ومندلي لهما نكهة خاصة، السماء في فصل الربيع صافية والنجوم تتلألأ بأنوارها البيضاء وكأنها لوحة رائعة رسمها فنان ماهر، أما القمر الذي لا يغيب فينسل كقطع ماسية نحتها الخالق ليكون الجار الوفي لا يفارق تلك المدينتين، لا يفارقهما وكأنه ملاكهما الحارس.
لم يعرف الشعب الفيلي السلام وراحة البال من أوائل التاريخ، فلعنة الغزوات والإحتلالات لا تعد ولا تحصى، ولكن الفيلييون الذين خلقوا للحرية كانوا مقاومون بالفطرة وهزموا الغازي والمحتل وأذاقوه العلقم، وكسروه على صخور بلادهم الصلبة والتاريخ يشهد بذلك.
بدأت الخطة الإجرامية على قدم وساق، من دون أن يتحرك مجلس الأمن الدولي لوقف هذا التطهير والإبادة المنظمة، بدأ تهجير الفيليين وسط صمت عالمي مريب.
تاريخ التعسف والتهميش بحق الفيليين بدأ منذ أوائل القرن العشرين بسبب قوميتهم الكوردية ومذهبهم الشيعي وقد كان هذا أوائل عام 1921 ثم حصل التهجير الأول عام 1948، قام البعثيون من ميلشيات الحرس القومي في العام 1963 بالهجوم على مناطق عديدة منها بغداد حيث إستبسل الأهالي وقاوموا بشراسة فصمدوا في حي الأكراد الفيليين لأكثر من أسبوع، فحملوا السلاح وقاتلوا قتالًا أسطورياً لآخر نفس وأقعوا عشرات القتلى قي صفوف الأعداء (بعض المصادر تفيد بتنفيذ أكثر من عملية إستشهادية) ولكن وبعد نفاذ الذخيرة والدمار الهائل ووحشية البعثيين سقط الحي لتقع المجازر بحق الشيوخ والرجال والنساء والأطفال حتى ضد الرضع وإضافة إلى إعتقال المئات لم يعرف مصيرهم، أما في العام 1970 فقد تم تهجير 80 ألف فيلي إلى إيران ثم هجر عام 1980 حوالي مليون إنسان بأوامر مباشرة من اللعين صدام حسين الذي قام بتنفيذ أبشع خطة عرفها القرن من تهجير وتطهير عرقي وديني ضد أحد أقدم شعوب العالم، من أجل تفريغ المنطقة من سكانها الأصليين والإستيلاء على الأموال المنقولة وغير المنقولة والموارد الطبيعية والأراضي الخصبة وإحدات تطهير ديموغرافي عبر إستجلاب قبائل سنية لتحل مكان الفيليين الشيعة، ولا ننسى زج آلاف الشباب في معتقلات سرية ليتم تصفيتهم في مختبرات الأسلحة الكيماوية دون العثور على رفاتهم لغاية اليوم (حوالي 20 ألف شاب مغيب).
بدأت المقاومة الفيلية المدنية لرفض هذا التغيير والتمسك بأرض الأجداد، الأرض التي بذلوا من أجلها الغالي والنفيس وقدموا الشهداء للحفاظ عليها من أي عدوان خارجي والداخلي.
لم تؤت المقاومة المدنية ثمارها، فبدأت المقاومة العسكرية من قبل خلايا مقاتلة متواضعة التسليح إضافة إلى خلايا نائمة كانت مهمتها جمع المعلومات الإسخباراتية وضرب خطوط إمداد العدو الخلفية. أما النساء الفيليات فكان لهن دور رائع في المقاومة سواء العسكرية أم المدنية والتاريخ يشهد سقوط مجاهدات روين بدمائهن الطاهرة الأرض الي ترعرن فيها والتي دفن فيها الأسلاف.
سالار (القائد الشجاع) والد لعائلة مؤلفة من الزوجة آفين (العشق)، وثلاثة شبان هم هم دلشاد (مسرور القلب) كاوة (إسم لقائد أسطوري ثار ضد الظلم والطغيان) وآريان، أما البنات فهن، شاهيناز والصغيرة الشقراء الرائعة الجمال تالة.
تعيش العائلة بمستوى ميسور،تعتمد على الكروم وزراعة الخضراوات والفاكهة التي ينقلها الأب بشكل يوميّ إلى السوق الكبير في خانقين، فيما تعمل الأم كخياطة، أما دلشاد فله مخبزه الصغير وكاوة يعمل في منشرة للخشب، أما آريان فهو طالب مع شقيقتيه شاهيناز وتالة التي تبلغ من العمر 5 سنوات.
وفي يوم أسود مشؤوم لا يمكن محوه من الذاكرة حتى لو انقضت مئات السنين، هاجم البعثيون القرية الصغيرة الوادعة بمركباتهم العسكرية وسط إطلاق كثيف للنار لإرهاب المواطنين المسالمين، وطلبوا من العائلات التجمع بقوة السلاح بساحة البلدة وأبلغوهم بأن قراراً جمهورياً صدر من بغداد يقضي بإخلاء القرية وغيرها من القرى.
لم ينته هذا الفصل المر إلا بطريقة مؤلمة، طلب البعثيون من الأهالي العزل وبقوة السلاح والإرهاب تسليمهم الأوراق الثبوتية وكل الحلي والمجوهرات، وكانوا يتقدمن نحو النساء والشابات لينزعون منهن الحلي والمجوهرات.
بدأ الضابط الحقير بتلو القرار الصادر من المحكمة الثورية في بغداد:
1. إخلاء الجميع فور تبلغهم القرار
2. تسفير وإخلاء إلى إيران، بغداد، الكوت،..
3. تهجير نحو بغداد والمحافظات الوسطى والجنوبية.
4. فصل شمل العائلات بأن يهجر أفراد العائلة كل إلى منطقة معينة.
5. إعتقال رجال ونساء قاموا بأعمال عسكرية ضد الثورة المجيدة.
6. منع نقل أي متاع من المنازل تحت طائلة المسؤولية.
دبت البلبة بين الحاضرين وظهرالخوف والهواجس من الآتي الأعظم، فيما إنهمرت دموع النسوة والأطفال، باشر البعثيون بتطبيق القرارات الجائرة، ففرزوا الحاضرين بين التسفير إلى إيران والتهجير والإعتقال التعسفي.
السؤال المؤلم والمحير والحزين!!.. ماذا سيحل بعائلة سالار المسالمة؟ يا ليت عائلة سالار ماتت قبل هذا اليوم!!..
ما جرى لهذه العائلة يختصر مأساة الفيليون عبر سنوات الإضطهاد والإبادة المنظمة، شيء مدمي تنفطر له القلوب. أما القرار الذي طال العائلة فهو:
1. الوالد سالار: معتقل سياسي
2. الأم آفين: تسفير ونفي إلى إيران
3. دلشاد 18 سنة: معتقل سياسي
4. كاوة 16 سنة: تهجير إلى بغداد
5. أريان 10 سنة: معتقل سري في سجن تحت الأرض يستعمل لإجراء تجارب كيماوية
6. شاهيناز 14: عاملة تنظيف في مصانع الثورة المجيدة
7. تالة: تمنح لعائلة أحد ضباط الثورة لتعمل خادمة منزل
ما إن سمعت عائلة سالار هذه التفاصيل حتى إنهارت واحداً تلو الآخر، ولكن هل من وسيلة؟ قاومت العائلة ورفضت أن يتشتت شملها، فامتنع سالار من الصعود إلى الشاحنة العسكرية نحو المعتقل السري كذلك فعل آريان.
عندما شاهد البعثيون ردة فعل عائلة سالار وغيرها من العائلات بدأوا بإطلاق الرصاص الحي نحوهم، وإذ بأصوات صراخ عالية تتصاعد توحي بأن إصابات عديدة قد سجلت.
وفعلاً وقعت إصابات عديدة بين السكان وبدأت الدماء تغطي المكان، فهرع الأب سالار لتفقد أفراد العائلة، وجد آفين، دلشاد، كاوة والصغيرة تالة ولكنه لم يجد لا آريان ولا شاهيناز فبدأت نبضات قلبه تتسارع وبدأ بالبحث، "يا الله أين الحبيب الأشقر آريان وأين حبيبتي الجميلة شاهيناز"، فصار يصرخ مع أفراد العائلة علهم يجدون أثراً لهما فيما الساحة ممتلئة بالعديد من الجثث والجرحى.
وجدت تالة الصغيرة شقيقتها شاهيناز، أعتقد أنها نائمة، فحاولت إيقاظها: "حبيبتي شاهيناز قومي، لم أنت نائمة، وما هذا الشيء الأحمر المغطي ثيابك؟ هيا قومي"...صرخت تالة بأعلى صوتها: شاهيناز نائمة هنا ولا تستيقظ!! فهرعت العائلة نحو شاهيناز فوجدتها الأم آفين تنزف بشدة والدماء تغطي جسدها ولا تتنفس، فصرخت بأعلى صوتها: "إبنتي الحبيبة رجاءً لا ترحلي، لمن تركت أحلامك؟ لماذا لم تأخذي أمك معك؟ صعبة الحياة بعدك يا شاهيناز يا صديقة أمك؟"، الوالد والأخوة المفجوعين رموا بأنفسهم على شاهيناز بمشهد مؤلم وحزين، فكانت شاهيناز الشهيدة الأولى من عائلة سالار.
إستمر الوالد ودلشاد وكاوة بالبحث عن الشاب الصغير آريان فوجدوه يصرخ من شدة الألم بسبب كسر خطير في الساق اليمنى وقد برزت عظمة منها إلى الخارج مما جعلته عاجزاً عن المشي. منع البعثيون إسعاف آريان وتركوه ينزف ولم يقلوه بأي شاحنة، فبقي وحيداَ طوال الليل وسط البرد القارص والجوع والعطش، وفي صباح اليوم التالي حضر سالار خلسة لتفقد آريان ولكنه لم يجد شيءاً فأعتقد بداية أن أحداً ما ساعد أريان أو أقله إلى أقرب نقطة صحية، ولكن أفكار سالار سرعان ما تبددت إذ رأى بعض بقايا لجسد بشري، فصرخ من أعماق روحه من هول ما رأى، الحيوانات المفترسة الضارية والجائعة هاجمت أريان بعد أن جذبتها رائحة الدماء ونهشت جسده الطري وهو حيّ، ثم فارق الحياة.
كانت تجري هذه الأحداث المدمية في الساحة الرئيسة للبلدة الصغيرة فيما البعثيون المؤمنون بالأمة الواحدة والرسالة الخالدة يقومون بعمليات السلب والنهب ولم يوفروا شيءاً حتى الحذاء المهترئ فالبعثيين بحاجة ماسة لمثل هكذا أحذية هامة للتسويق للثورتهم المزعومة ولإقناع المغفلين بمبادئهم الفاسدة المتعطشة إلى الدم.
بدأ إطلاق النار من جديد إيذاناً بتطبيق الأوامر الصدامية، فأجبر سالار ودلشاد للصعود إلى الشاحنة بالقوة لترحيلهما إلى المعتقل السياسي الرهيب الذي تتنوع فيه أساليب القتل والتعذيب ثم لتنقطع أخبار سالار هناك وإلى الآن لا يزال مصيره مجهولاً، علماً أن معلومات أشارت إلى أن البعثيين قطعوا أصابع قدمي سالار العشرة كعقوبة له فمات لاحقاً جراء الألم والإلتهابات النتنة والجرذان التي نهشته.
أجبر دلشاد على الصعود إلى الشاحنة العسكرية وبعد أن قطعت مسافة 200 متر قام بالقفز منها لأنه لم يتحمل فكرة ترك والدته وشقيقته بنت الخمس سنوات لمصيرهما المجهول، ولكن وبشكل مآساوي قامت شاحنة أخرى بدهسه بشكل متعمد فسحقته ليموت على الفور. لقد حدث كل ذلك أمام مرآى الوالد الذي لا حيلة له سوى الدعاء والبكاء على مصائب هذا الشعب المستضعف والفقير.
تم ترحيل كاوة إبن ال 16 سنة إلى بغداد غريباً جائعاً عطشاناً لا يلوي على شيء، وكان أول ما قام به دخوله إلى أحد محلات السمانة فترجى صاحبها أن يعطيه بعض الطعام والشراب ففعل، ولما علم بقصته المفجعة بكى واستضافه عنده وأكرمه وأسكنه غرفة وعامله كفرد من أفراد العائلة.
بقي كاوة يعاني من القلق والتعب النفسي حيث لازمته مشاهد قتل معظم أفراد عائلته أمام عينيه، خصوصاً أنه لا يعلم شيءاً عن والدته وشقيقته الصغرى تالة. كاوة فارق الحياة بعد مرور سنة على إبادة عائلته بسبب اللوعة والحسرة.
لم يسمح البعثيون بدفن الشهداء رغم توسلات الأمهات المفجوعات. جاء دورالأم المسكينة والمنهكة آفين فقد حان موعد تسفيرها إلى إيران فطلب منها صدامي المسير فوراً نحو الشرق تحت أشعة الشمس الحارقة ومن دون كسرة خبز أو نقطة ماء، فانصاعت للأمر مجبرة، أمسكت بيد تالة لتبدأ مسيرة الآلام والأحزان ولكنها لم تدرك أن الصغيرة تالة ستفصل عنها، وفعلاً وبعد خطوات قليلة هجم بعثي حقير وانتزع تالة بقوة ففقدت الأم صوابها وهاجمته بكل قواها لتستعيد حياتها تالة ولكنه دفعها بقوة وأزال عنها حجابها وسحبها من شعرها الطويل أمتار عديدة، إلا أن ذلك لم يمنعها من الوقوف مجدداً محاولة إستعادة فلذة كبدها ولكنه عاود ضربها بقسوة بأعقاب بندقيته على رأسها ووجهها ليسيل الدم منهما بغزارة ولتفقد وعيها لبرهات قليلة.
لقد حصل كل هذا أمام المسكينة تالة التي كانت تبكي وتصرخ بدون انقطاع وتنادي: "أمي حبيبتي، أبي، دلشاد، كاوة وآريان تعالوا أنقاذوا أمي وساعدوني". تذكرت الوالدة أنها لا تزال تحتفظ بقلادة ثمينة كانت قد ورثتها من والدتها فأعطتها لجندي آخر راجية منه التدخل وإعادة طفلتها لها وفعلاً تمتم الجنديان سوية وأطلقا سراح تالة للحرية. لم تصدق الوالدة بأن تالة عادت إلى أحضانها.
بدأت رحلة المسير أي رحلة الموت إلى إيران لما فيها من مخاطر، كالحر والحيوانات الضارة، العطش والجوع، وطول المسافة، فكانت هناك طوابير طويلة وتعيسة من الناس الذين يتقاسمون الحزن والأسى وفقدان الأحبة.
كان المسفّرون يرتاحون قليلاً بين الحين والآخر، وكانوا يوزعون الأدوار، مجموعات تفتش عن حطب للتدفئة ليلاً، ومجموعات تفتش عن أي شيء يمكن أكله من حشائش أو ماء، آفين كانت في المجموعة الثانية وفيما كانت تهم بإقتلاع إحد النباتات لسعتها أفعى سوداء في يدها فصرخت من شدة الألم، ولكن ما من حيلة لإسعافها، أرجعتها صديقاتها بصعوبة إلى الطابور، صار السم يجري في جسمها أشارت بأن يحضروا تالة، رمت تالة نفسها على أمها التي قبلتها قبلات الوداع، شاهدتها شاحبة لا تقوى لا على الحراك أو الكلام ثم توقف نفسها وقلبها عن الحياة، بكت الطفلة المسكينة حتى اختفى صوتها وقد أصبحت وحيدة في هذا العالم الظالم. قام الرجال بحفر قبر ودفنوا أفين فيه متمنين لروحها أن ترقد بسلام وأن تحيا في جنات النعيم.
بانو وزوجها آزاد كانا عاقران ففكرا سريعاً بتربية تالة وإحتضانها، وفعلاً قاما برعايتها طوال المسير وقد أظهرا لها عاطفة مميزة وكأنها إبنتهما الحقيقية التي لم ينجباها والتي أدخلت السرور والفرح على قلبيهما.
وصلت عائلة آزاد إلى إيران بعد مسير طويل وشاق، استقبلهم حرس الحدود بأحسن استقبال وقدموا لهم ما يلزم كما كان بانتظارهم باصات كبيرة نقلتهم إلى طهران أو إلى مخيمات خصصت لذلك.
كبرت الطفلة الصغيرة تالة وأصبحت شابة جميلة جداً، وتابعت دراستها لتصبح طبيبة أطفال مشهورة ولكن صورة المآسي والآلام التي طالت عائلتها وشعبها لم تفارق عقلها وقلبها ووجدانها. تزوجت الطبيبة البارعة من طبيب فيلي يدعى سيروان متخصص بطب العظام متفوق ومشهور يتردد إليه كبار الشخصيات، الطبيب الزوج خاض نفس تجربة تالة المريرة لناحية التسفير والتهجير ففقد 4 من أفراد عائلته..
حرصت تالة وسيروان على تعليم أبنائهما اللغة الفيلية لأنها لغة الأجداد ولأن اندثار وذوبان أي لغة يعني اندثار وذوبان الوطن والقضية. كما أنشأت مركزاً ثقافياً وإجتماعياً يعنى بأبناء شعبها ويعلم اللغة الفيلية.
أصبحت عبارات المآسي والألم والحزن والظلم مرادفة للشعب الفيلي الذي لم ينصف يوماً، ولغاية الآن لا يزال الفيليون مهمشين وتحت عناوين عديدة رغم ما قدموه من تضحيات.
رحم الله شهداء الفيلية وأسكنهم في جنات النعيم