شفق نيوز/ كنا قد تناولنا في موضوع سابق نظرة عامة لمناطق وسط بغداد التي تركز فيها الكورد الفيليون منذ القدم التي اشتركوا في شتى نشاطاتها الاجتماعية والاقتصادية؛ وفي موضوعنا هذا نحاول الإلمام ببعض مظاهر وحياة منطقة هامة لطالما تركزت فيها معالم حياة زاخرة بالألفة والروح الاجتماعية، ونعني بها منطقة "شارع الكفاح".
وشارع الكفاح الذي يعد من الشوارع الطويلة في بغداد يمر من منطقة باب المعظم صعودا الى النهضة ثم الباب الشرقي، ويقدر طول الشارع بخمسة كيلومترات وكانت بيوته من القصب والطين، وبدأت حركة العمران بامتداده في ثلاثينات القرن الماضي ونشطت في الأربعينيات والخمسينيات وانشأ بامتداده عدد كبير من العمارات والابنية الحديثة، بحسب الوثائق التاريخية.
وتشمل المنطقة التي يمتد فيها الشارع محلات "الصدرية" و"عكد الاكراد" و"كهوة شكر" و"الفناهرة" و"اجميلة" و"فضوة عرب" ومحلة "بني سعيد" و"فضوة مرجان" و"رأس الساقية" و"باب الشيخ" و"دربونة الخزرج" و"ابو دَوْدَوْ" و"ابو سيفين" و"قنبر علي" و"المهدية" و"الفضل".
وتغيرت تسمية الشارع بحسب ظروف البلد المتغيرة من شارع الملك غازي الى شارع الزعيم ثم شارع الكفاح.
وتذكر المصادر التاريخية، ان المكان كان ارضا زراعية خالية من العمران حتى اوائل القرن الثالث الهجري حيث بنى المأمون قصره ليبدأ العمران بالاتساع لتنشأ البساتين والحدائق والمحال التجارية وقد سميت منطقة تركز المحال بالمأمونية التي تضم القشلة والدهانة وسراج الدين، وقد ازدهرت تلك المحال في القرن الخامس الهجري وفي القرن الثامن الميلادي بدأ العمران بالتطور في منطقة شارع الكفاح وكان من أهم محلاته القديمة دربونة الجلبي والاثوت والعزة والبستان والوثبة، وبني فيه حمامان واحد للنساء وآخر ملاصق له للرجال، وهو يزدحم لاسيما في فصل الشتاء وان اغلب من يأتي اليه من المحافظات رجالا ونساء، على وفق الباحثين.
ومن ابرز معالم شارع الكفاح ساحة السباع التي انشئت عند تصميم الشارع، وبحسب سكان المنطقة كانت حديقة غناء فيها تماثيل لأسود تخرج من فمها نافورات الماء وتحيطها المطاعم الصغيرة، الا انها الآن صارت ساحة تحيطها ورش المواد الانشائية الصغيرة والمتخصصة بانابيب الماء والشيش وماطورات الماء، بحسب وصفهم.
وبحسب المصادر فان الكفاح هو شارع الكورد الفيليين نظرا لكثافة تواجد عائلات الكورد الفيليين في شتى مناطقه وتعد المحلات السكنية المتوزعة على جانبيه من اقدم المناطق التي سكنها اهالي بغداد ومنها محلة الفضل و المهدية وقنبرعلي والبو شبل وابو سيفين وابودودو و طاطران و العيدروسي وعكد الاكراد وعكد الجري وفضوة عرب وكهوة شكر والصدرية وهي مثل كل المحلات المتبقية تتميز بجانبها التراثي من حيث الطراز البنائي القديم ، فالبيوت العالقة بالقدم تعلوها الشناشيل، بحسب تعبير الباحثين.
ويلفت الباحثون الى ان هذا الشارع رمز للتعايش السلمي بين سكانه ومحاله السكنية بشتى تنوعهم مشيرين الى براءة اهلها وحسن معشرهم وطيبتهم ونزوعم للعيش والبقاء بسلام و طمأنينة، بحسب تعبيرهم، ومرد ذلك بحسب قولهم، عائد الى حسن الجوار و التمسك بالتقاليد ومنها احياء اهالي تلك المحلات المناسبات المشتركة ومنها ذكرى عاشوراء وكذلك المناسبات الدينية الثي تجري في ضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني الذي يشهد زيارة الالوف من الزوار من مختلف دول العالم، كما ان الشارع يضم مرقد الصحابي "قنبر" الذي سميت المنطقة المحيطة باسمه وهي من المحلات التي تأسست فيها مدرسة المهدية في عشرينات القرن الماضي التي درس فيها الزعيم عبد الكريم قاسم وشخصيات وطنية اخرى كما تمتاز هذه المحلة بتواجد سوق "حنون" الذي يعد من اقدم اسواق بغداد.
وبحسب الباحثين والمؤرخين فان الكورد الفيليين من اقدم المجتمعات التي سكنت محلات هذا الشارع وكان لهم بصمتهم في انعاش الواقع الاقتصادي في بغداد عن طريق تواجدهم في سوق الشورجة الواقعة بين شارع الرشيد وشارع الكفاح منذ اربعينيات القرن الماضي وتحديدا بعد هجرة اليهود، بحسب تصنيفهم.
وبدورهم تعرض الكورد الفيليون الى عمليات تهجير متكررة، واحد وجهاء الفيليين تبرع ببيته ليكون مدرسة ابتدائية في منطقة باب الشيخ وسميت بمدرسة "الكورد الفيلية" التي قام النظام المباد بتغيير اسمها بعد انقلاب الثامن من شباط عام 1963 ، واستدركوا انها عادت الى اسمها القديم بعد سقوط النظام المباد في عام 2003، لافتين الى ان مئات التلاميذ من ابناء المنطقة لا زالوا يداومون فيها وكان المتبرع ينتمي الى قبيلة ملكشاهي التي هي احدى القبائل الكوردية العريقة، بحسب وصفهم، مزيدين انه كان للمكون الفيلي دوره في تنشيط الحركة الرياضية عن طريق تشكيل فرق شعبية اتخذت من المقاهي المتواجدة مقرات لها مثل مقهى الحاج خداداد ومقهى هاشم ومقهى اهالي بدره، وقد كانت منطقة العوينه ساحة لمسابقات كرة القدم مع الفرق الشعبية الاخرى، اذ اسهمت هذه الفرق الشعبية التي كان اغلب اعضائها من المكون الفيلي في رفد المنتخب الوطني بكثير من اللاعبين المتميزين مثل محمود اسد وشقيقه عبد الصمد وجلال عبد الرحمن وانور مراد ونوري قهرمان، بحسب قولهم.
ويوضح الباحثون ان تلك المقاهي تميزت باقامة ندوات ثقافية وسياسية اسهمت في خلق الوعي الوطني في صفوف جماهير المنطقة، مذكرين "بالموقف البطولي الذي وقفه ابناء المنطقة وفي مقدمتهم الكورد الفيليين عندما قاوموا ببسالة وباسلحة تقليدية زحف دبابات النظام الشوفيني عند تقدمها على وزارة الدفاع وتمكنوا من اعطاب عدد من اليات الانقلابيين في 8 شباط 1963"، بحسب قولهم.
وبحسب إحصائيات غير رسمية حديثة، فإن نصف المقيمين في تلك المنطقة هم من الكورد الفيليين، والنصف الآخر من العرب السنة والشيعة، فضلا عن التركمان والمسيحيين، منوهين الى كثرة تواجد محال فرق الموسيقى الشعبية.
أحد سكان تلك المنطقة، يقول إنهم لا يستعملون مصطلحات مثل "الشيعة والسنة" في منطقتهم ابدا، فجميعهم يعيشون معاً كإخوة، بحسب تعبيره؛ وكان يتوزع على البيوت والازقة باعة الدوندرمة، والشعر بنات، والشربت، ويجلسون في مقاه متوزعة بين الازقة، وتتواجد فيها حمامات للرجال والنساء، ويقول احد سكنة المنطقة القدماء ان الناس تعيش هنا بالفة وحنين، بظل حب متبادل بين الجميع يغمر السكان الاصليين من الكورد والعرب والتركمان، نازحون من مدن العراق المتنوعة، بأديان وطوائف متعددة، على حد وصفه.
واستذكر سكان من المنطقة عديد مقاهي الكفاح والوصلات الغنائية البغدادية التي كانت تجري في مطلع السبعينات، كما كانت مكاناً لتسابق رمضاني اذ اشتهرت بأقدم مباريات "المحيبس"، كما اشتهر شارع الكفاح باسطوات البناء ومنهم الحاج "لقمان".