ماجد خانقيني/ قرية دارا – خليل فتح الله، قد تكون بحجمها صغيرة وعدد سكانها قليل، وقد لا تحتوي معظم الخرائط الجغرافية على نقطة تمثلها، وحتى أناسها من الطيبة والوداعة بحيث عندما تلتقي اي شخص منه لاول مرة تشعر انك تعيش في جزء آخر ومختلف عن العالم الذي تشغله الصراعات والمشكلات، ولكن لهذه القرية التي يعيش فيها خليط من ابناء الديانة الاسلامية والديانة الكاكائية منذ مئات السنين؛ لم اسمع يوما ان حصل مابين ابنائها ما يفسد الود منذ ولادتي فيها قبل اكثر من نصف قرن، فكل بيت فيها منشغل بما يسد به رمقه في هذا الزمن الصعب.
قد يسأل سائل اذا كان الامر كذلك، فلم تصدع رؤوسنا وتتعب عيوننا بالحديث والكتابة عن هذه القرية التي تقع على بعد حفنة من الكيلومترات القليلة من مدينة خانقين شمالا على الطريق الرئيس الرابط بينها وبين مدينة كلار مركز ادارة كرميان؟
اقول ان الذي يذكرني بها اليوم وهذه الليلة، ليلة 16 تشرين الاول 2022، حصل فيها قبل 47 عاما بالتمام والكمال أمر لا ولن يبرح خيالي ابدا، ففي صبيحة يوم 17 تشرين الاول 1975، احاطت بها قوات النظام البعثي السابق، وقامت بترحيل سكانها الى وسط وجنوب العراق، بعد انتكاسة ثورة ايلول، وتم اركاب جميع سكانها من رجال ونساء واطفال في سيارات عسكرية حمل من طراز (زيل) روسية الصنع مع بعض الامتعة في رحلة طويلة ومتعبة وشاقة ومخيفة الى مناطق اذكر منها (بعض قرى قضاء المدائن – سلمان باك) و(بعض قرى ناحية الوحدة) و(قرى منطقة 7 نيسان في جسر ديالى الجديد) وتم تفريق العوائل وعددها لايتجاوز 45 عائلة فرادى على اطراف تلك القرى ضمن سياسة التعريب التي شملت الحرث والنسل اذ تم جلب عوائل من الوافدين العرب الى قرى خانقين المرحل عنها اهلها، وتفريق العوائل الكورد في تلك القرى فرادى لاذابتها في المجتمع الجديد الذي كان غريبا عنهم وهم لايتقنون غير لغتهم الام، علما ان الترحيل شمل جميع القرى الكوردية المحيطة بخانقين ضمن سياسة ممنهجة للتعريب.
سقت هذا الكلام عن هذه القرية التي كما اسلفت كانت انموذجا للتعايش بين سكانها ونحن نعيش ذكرى أليمة اخرى ولكن على نطاق اوسع وألم اشمل وهي ذكرى 16 تشرين الاول 2017 هذه الذكرى التي تسبب بألم مزدوج للشعب الكوردي بعد ضياع اكثر من نصف مساحة كوردستان الجنوبية بعد اجراء الاستفتاء التاريخي.
فهل هو من قبيل الصدفة ان تتزامن هاتين الذكريين؟ ام ان الذكرى الاولى كانت بمثابة جرس انذار لنا بما قد نواجهه في حال تمكن الانظمة الشمولية الشوفينية منا؟ وهل كان الترحيل القسري الذي يعد جريمة ابادة جماعية لنا، بداية لما تلتها من جرائم، بعد ان سكت الجميع عنها، فكانت بمثابة جس نبض للعالم الحر؟، فلو كان للعالم رد فعل لجريمة الترحيل لما تجرأ النظام السابق على جرائمه اللاحقة من تهجير الكورد الفيليين عام 1980 التي راح ضحيتها 500 الف مهجر ونحو 20 الف شاب مغيب لم يتم العثور على رفاتهم بعد مضي نحو عشرين عاما على سقوط البعث، وجريمة ابادة البارزانيين حيث تم قتل 8 الاف انسان لمجرد انتمائهم لهذه العشيرة العريقة، ومن ثم جريمة قصف حلبجة بالاسلحة الكيمياوية المحرمة دوليا حيث تم قتل نحو 5 الاف مدني في دقائق واصابة اكثر من 20 الف مدني اخرين، وجرائم الانفال التي راح ضحيتها 182 الف انسان كوردي بريء دفنوا احياء في مقابر جماعية في صحاري الجنوب، وتدمير 4500 قرية كوردستانية وطمر آبارها وعيونها وزرعها بالألغام التي مازال الكثير منها ينفجر ليقتل ويجرح الابرياء.
الا ان ذكرى 16 تشرين الاول 2017 تكاد تكون الاكثر مرارة بين كل الحوادث التي مرت على الشعب الكوردستاني، حيث ان جرائم البعث لم تؤد الى نهاية الشعب الكوردستاني كما كان يخيل له؛ بل ادت الى توحد الشعب وقواه المناضلة وحصلت الانتفاضة الربيعية وتمخض عنها ولادة اقليم كوردستان ومؤسساته الرسمية.. ومن ثم تحرير معظم مناطق كوردستان الجنوبية لاول مرة بعد سقوط النظام السابق وتحطيم اسطورة داعش الارهابي على يد قوات البيشمركة، ولكن للاسف بين ليلة وضحاها -كما يقال – ضاعت نصف مساحة الاقليم وكاد ان يضيع النصف الاخر لولا صمود البيشمركة وتهدد كيان الاقليم وتجويع شعبه وحصاره، كل ذلك حصل بسبب تصرف بعض الطارئين على الساحة السياسية الذين لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية والحزبية والتكتلية الضيقة..
فيالها من مفارقة ان تنطلق مأساتنا من قرية لتنهي الى ما انتهت اليه مما هو معروف للجميع وما عاناه ويعانيه الجميع لحد الان!!