ماجد سوره ميري/ في مثل هذه الأيام، (بالتحديد في 28 أيلول 1963)، نستذكر محطة مفصلية في تاريخ النضال الكوردي الحديث، حين انطلقت أولى ذبذبات إذاعة "صوت كوردستان العراق" – لتمثل صوت الثورة، وصرخة شعب، ومنبرا لحركة تحررية واجهت التعتيم والقمع لعقود. وقد لا يدرك الكثيرون اليوم أن وراء هذا الإنجاز التاريخي، الذي شكل ركيزة أساسية في ثورة أيلول الكوردية (1961–1975) بقيادة الاب الروحي للامة الكوردية الخالد الملا مصطفى بارزاني، كانت هناك أيادٍكوردية فيلية ساهمت بصمت وجرأة في إيصال "صوت كوردستان" إلى الجبال والسهول، وإلى الضمير العالمي.

في بدايات ثورة أيلول، واجهت الحركة الكوردية تحديا حرجا: كيف يمكن ان يكون للثورة صوت مسموع في ظل حصار إعلامي خانق؟ كيف يقال للعالم إن هناك شعبا يُقاتل من أجل الكرامة، وإن في جبال كوردستان نارا مشتعلة بالحرية؟ هكذا وُلدت فكرة تأسيس إذاعة كوردية ناطقة باسم الثورة، وكان لا بد من تيسير الإمكانيات التقنية والمالية واللوجستية لتحقيق ذلك.

الكورد الفيليون... جسر الصوت الخفي

لعب الكورد الفيليون، بعلاقاتهم التجارية الواسعة، وتواجدهم في بغداد ومدن الجنوب، دورا مركزيا في جعل فكرة الإذاعة ممكنة؛ فبحسب روايات تاريخية، قام الفيليون بجمع تبرعات مالية – شارك فيها التجار والصناعيون، بل وحتى الفقراء – لشراء جهاز إرسال (مرسلة) من ألمانيا الشرقية. هذا الجهاز كان قد صنّف من مخلفات الحرب العالمية الثانية، لكنه أصبح لاحقا القلب النابض لصوت كردستان.

نقلت المرسلة من ألمانيا إلى الكويت بحرا، ومن هناك دخلت إلى العراق عبر البصرة، فالعمارة، فالكوت، حتى بغداد. وهناك، أُخفيت في "كراج الأسطة علي" في شارع الشيخ عمر، قبل أن تنقل بسيارة إلى جبل بمو في كوردستان، وقد تم ذلك وسط ظروف أمنية غاية في الخطورة؛ وفي جبل بمو، تولّى المختصون في الثورة تركيب الجهاز وتشغيله، ليبدأ البث التجريبي.

أول صوت... كان فيليا

في اللحظات الأولى للبث، كان الصوت الذي اخترق الأثير هو صوت مذيع فيلي شاب هو: طالب جبار داوود الملكشاهي الفيلي؛ نُقل عنه أنه كرر ثلاث مرات العبارة التجريبية: "هنا صوت كوردستان... هنا صوت كوردستان... هنا صوت كوردستان" لقياس مدى الإرسال. ولاحقا، وبتوجيه من قيادة الثورة، تم تثبيت العبارة الرسمية: "هنا صوت كوردستان العراق= ئێرە دەنگی کوردستانی عێراقە"، لتبث باللغتين الكوردية والعربية.

إن ما قام به الكورد الفيليون لم يكن عملا تقنيا أو ماليا فقط، بل كان موقفا وطنيا عميقا، تجلى في اللحظة التي كان فيها صوت الثورة على وشك أن يخمد بالصمت؛ لقد جسد الفيليون في تلك اللحظات ما عرفوا به عبر التاريخ: شراكتهم العضوية في المشروع الكوردي القومي، وتضحياتهم المتكررة دفاعا عن الهوية والحرية، رغم ما تعرضوا له لاحقا من تهجير وقمع وتنكيل على يد الأنظمة المتعاقبة.

في كل عام نحتفي بذكرى تأسيس "صوت كوردستان العراق"، لا نحتفل فقط بحدث إعلامي، بل نحتفي بقدرة شعب بأكمله على إيجاد صوته رغم كل الصمت؛ وفي قلب هذه القصة، كان الكورد الفيليون صناعا للصوت، حماة له، وداعمين له من الظلال إلى الضوء.