عباس عبد شاهين
يمر أكثر من خمسة عشر عاماً على صدور قرار المحكمة الجنائية العراقية العليا في 29 تشرين الثاني 2010 الذي اعتبر ما تعرض له الكورد الفيليون من تهجير قسري وقتل وتغييب في عام 1980 جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان وفقاً للمعايير القانونية والإنسانية المعتمدة دولياً وهذا القرار التاريخي لم يكن حدثاً شكلياً بل جاء بعد تقييم شامل للأحداث والوثائق والشهادات وقد أقر لاحقاً من قبل مجلس الوزراء في خطوة هدفت إلى إزالة آثار الظلم الذي لحق بالكورد الفيليين نتيجة سياسات النظام البائد وعلى ضوء هذا الاعتراف الرسمي صدر قانون رقم (426) لسنة 2010 عن مجلس الوزراء لإزالة الآثار السلبية عن الكورد الفيليين وبدعم سياسي وتشريعي من مجلس النواب بما أعاد الاعتبار المعنوي لهم بعد عقود من المعاناة والحرمان إلا أنه ورغم أهميته لم يترجم إلى إنصاف عملي شامل يوازي حجم المأساة التي عاشها الكورد الفيليون وذاقوا خلالها أقسى أشكال الاضطهاد بسبب انتمائهم القومي والمذهبي.
وتعود جذور هذه الجريمة إلى ما بعد انقلاب 8 شباط الأسود عام 1963 حين استولى حزب البعث المجرم على السلطة وبدأ بتكريس سياسات إقصائية ممنهجة منذ ذلك الحين جرى التعامل مع الكورد الفيليين بوصفهم غرباء في وطن تمتد جذورهم فيه إلى أعماق وادي الرافدين فوصفوا بالتبعية الإيرانية وجردوا من جنسيتهم العراقية وصودرت ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة في واحدة من أبشع صور التمييز العنصري والاضطهاد المنظم في تاريخ العراق الحديث ولم يكن تهجير الكورد الفيليين حدثاً عابراً أو نتيجة ظرف طارئ بل كان عملية مخططة نفذت على مراحل متعاقبة بدأت إرهاصاتها منذ عام 1969 وتوسعت في عام 1970 لتبلغ ذروتها الدموية عام 1980 التي تحولت حياة عشرات الآلاف من العائلات إلى مأساة مفتوحة على المجهول حيث اقتلعت من بيوتها وجذورها في ظل حملة قمع شاملة تزامنت مع اندلاع الحرب العراقية – الإيرانية حيث بلغت هذه الحملة ذروتها عندما جرى تهجير الكورد الفيليين قسراً إلى الحدود الإيرانية في ظروف إنسانية قاسية ومهينة وغالباً عبر طرق مزروعة بالألغام وتم ذلك بعد تجريدهم من جميع وثائقهم الثبوتية وأموالهم وممتلكاتهم في انتهاك صارخ لكل القوانين والأعراف الدولية ورافقت هذه الجريمة عملية تغييب قسري لأكثر من 20 ألف شاب فيلي حيث ما زالت عائلاتهم حتى اليوم تجهل مصيرهم ومواقع رفاتهم رغم مرور عقود وتوفر تقنيات حديثة ورغم مطالبات متكررة من الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.
إن الحكومة العراقية المقبلة ملزمة قانونياً وأخلاقياً بتنفيذ قرارات المحكمة الجنائية العراقية العليا خصوصاً ما يتعلق بحقوق العوائل المهجرة والشهداء والسجناء والمفقودين فالغالبية العظمى من الكورد الفيليين لم يحصلوا بعد على حقوقهم الكاملة ولا سيما في ملف البحث عن رفات الشهداء الذي يعد شرطاً أساسياً لتحقيق العدالة وإنهاء معاناة العائلات كما أن القوانين التي صدرت لاحقاً لم تفعل بالشكل المطلوب بسبب تقصير واضح وعدم التزام بعض الدوائر والمؤسسات المعنية وهنا تبرز ضرورة أن تضطلع أمانة مجلس الوزراء بدور فاعل في متابعة تنفيذ القرارات ومخاطبة الوزارات والهيئات ذات العلاقة ومحاسبة كل من يعرقل تطبيق الأحكام القانونية ويقع في الوقت ذاته على عاتق ممثلي الكورد الفيليين في البرلمان العراقي واجب متابعة هذا الملف وتشريع قوانين حقيقية ترفع الحيف وتنهي عنهم معاناتهم وإن استمرار التقصير رغم الاعتراف الصريح بجريمة الإبادة الجماعية بحق الكورد الفيليين يجعل ملفاتهم المتعددة من استعادة الجنسية وكشف مصير المفقودين والتعويضات واسترجاع الأملاك وصولاً إلى التمثيل السياسي العادل أولوية وطنية لم تنجز بعد فالعدالة المؤجلة مهما طال الزمن تبقى ناقصة ولا يمكن لدولة تسعى لبناء مستقبل ديمقراطي أن تغلق صفحة الماضي دون إنصاف ضحاياه إنصافاً كاملاً وواضحاً.