عبد الخالق الفلاح/ هناك صلة وثيقة بين مستوى ارتباط الإنسان بمحيطه الاجتماعي، وبين استقامة السلوك ودرجة الفاعلية والإنتاج، لقد فقدت الروح الاجتماعية بوصلتها عند أكثر الناس لصالح الاهتمام الفردي، حيث أصبح كلّ واحدٍ من عندنا مشغولاً بنفسه، وفي بعض الأحيان حتى عن عائلته وأُسرته في الوقت الحالي نتيجة الظروف المتغيرة والسياسات الخاطئة للحكومات المختلفة التي ادارت العراق وفقدت العلاقات الاجتماعية بريقها حيث لم تعد تلك العلاقة كما كانت وباب الشيخ التي يعود تاريخها الى زمن ما قبل العهد السلجوقي (395هـ- 1133م) لم تكن بعيدة عن هذه الظاهرة المؤلمة حيث غادر اهلها الاصلاء وتوزعوا في الشتات برغبة البعض منهم او الاجبار بسبب التغييرات التي استحدثت في اواخر السبعينات وبداية الثمانينات لتوسيع المرقد والتي جاء اسمها من وجود الحضرة القادرية من اسمها القديم الذي اشتهرت به تاريخيا بـ(باب الازج) كما ذكرنا وتعتبر نموذجا صادقا للحياة البغدادية بتنوع سكانها وجمال طقوسهم الاجتماعية والدينية ذات النكهة العريقة والتي لاتزال تحافظ على ذلك الارث الثمين الذي هو من سمات محلات بغداد العريقة و بكل أبعادها الحضارية من معمار وممارسات اجتماعية وفنون وطقوس دينية عبر العصور.
واشتهرت المنطقة بالحياكة واتت مهنة البناء بكل تفاصيلها المعقدة من المهن التي واشتهرت المنطقة كذلك بصناعة أليزار قبل شيوع العباءة لدى النساء المسلمات والطوائف الاخرى كالنصارى واليهود بعد كانت النساء يلبسن الفوطة والجرغد والشيلة على رؤوسهن على الاشهر، وكانت تتميز بالوانها الزاهية وتطرز الفاخرة منها بالخيوط المذهبة، واشتهروا كذلك من غير الحياكة وبأتقانهم قراءة المقام العراقي ومعرفة فنونه هذا الفن العريق ولكن اتقان المقام في باب الشيخ يرجع الى وجود الضريح الشريف في تربة المحلة والذي كانت تقام فيه الاذكار ورفع الاذان وتجويد القرآن والتمجيد والتسبيح والابتهالات ومن أشهر قراء القراَن في المنطقة عبد الستار الطيار والشيخ القلقالي وملا مهدي واحمد دبيس الشيخلي وملا مامي الكوردي وملا خالد الشيخلي والحافظ خليل اسماعيل والحافظ ابراهيم وابراهيم برم واخرون وكل ذلك جعل الكثير من رجال المحلة يتقنون اصول وفروع المقام العراقي بكل صنوفه مثل الرست ونهاوند والحجاز والبيات وسيكا والصبا والعجم والكورد مقام النهاوند...الخ
ومن اشهر القراء الذين تواجدوا في المنطقة ومن رواد مقهى المكفوفين ، مطرب المقام العراقي الشهير يوسف عمر وعباس گمبير الذي كان يعمل حارس ليلي في كراج مصلحة نقل الركاب في الشيخ عمرونجم الشيخلي وحمزة السعداوي وعبد الرحمن خضر وحسن خيوگة وتعدُ منطقة باب الشيخ من المناطق البغدادية التي اهتمت و التي اشتهرت بهذا الفن ووكذلك المربعات البعدادية ومن اشهر قرائها ، جاسم الشيخلي والحاج حامد السعدي ورشيد القندرجي ومحمد العاشق وعدنان الشيخلي ونجم الشيخلي وقدوري العيشة واخرون، ومن الفنانين الذي سكنوا المنطقة سلمان شكرا استاذ العود الشهير وياسين الشيخلي عزف الكمان والمطرب جاسم الخياط ووالمطربة مائدة نزهت ومن فناني السينما والمسرح والتلفزيون وسالم شفي وهاني هاني و اسيا كمال و جواد الشكرجي وفاطمة الربيعي واختها زهرة الربيعي و عبد الجبار عباس وراسم الجميلي واخرون .
ولهذا السبب فقد حظيت المنطقة بأهتمام المؤرخين والباحثين لما لها من اهمية دينية واجتماعية وتاريخية، وانجبت نخبة متميزة من كبار العلماء والمثقفين والادباء والفنانين والسياسيين والعسكريين، اضافة إلى انها كانت تضم في ارضها بعض المعالم الاثرية التاريخية منها (طاك باب الشيخ) الذي بني قديماً على شكل نفق تعلوه بناية قديمة ويبلغ طوله نحو عشرة امتار وعرضه خمسة امتار، ويوصل هذا الطاك محلة فضوة عرب بشارع الكيلاني الذي يربط شارع الكفاح بشارع الشيخ عمر، وكانت تحكى عن هذا الطاك القصص والحكايات الشعبية الخرافية والتي على اثرها جعلت البعض من اهالي منطقة باب الشيخ (الشيخلية) يخشون المرور منه وقت الليل ويقدر عمر بنائه باكثر من خمسمائة سنة ، ظناً منهم بان هذا المكان كما تشير إليه تلك القصص والحكايات المحيوكة مسكوناً بالجن والطنطل، كانت تصدر في الظلام الدامس تحت الطاك اصواتا وحركات غريبة وفي الحقيقة ان مصدر هذه الاصوات والحركات كانت من بعض الفقراء العجزة الذين لا ماؤى لهم ينامون فيه ليلاً خاصة ايام فصل الشتاء البارد وكذلك قيام بعض السكارى من اهل المنطقة او من المحلات القريبة، بحركات واصوات تخيف السامعين لها من الناس المارين عبر هذا الطاك.
كنّا نعيش في منطقتنا باب الشيخ التي تضرب جذورها في أعرق مشارب التاريخ بكل محبة وتودد وانسانية ، جمعت سكانها في بوتقة واحد رغم تتابع الويلات والآلام، العلاقات بين أبنائها كانت متينة وتشكل مختلف الطوائف والقوميات والاديان واللهجات ، الكوردي و العربي والتركماني ،المسلم والمسيحي والصابئي واليهودي ، حيث ترابطت المواقف فيما بينهم في أوقات وأزمان مختلفة، وفرضوا أنفسهم على التاريخ، في حفظهم الذكريات ،بتواصل مكثَّف في مجتمعنا في السابق حينما كانت الحياة على بساطتها، وكان الناس يعيشون في منطقة محدود الجغرافية ، وضمن اهتمامات ، وطموحات بسيطة لكنّنا الآن، ومع التطوّر الذي حصل على واقع حياتنا، لم نعد نعيش درجة التواصل الاجتماعي السابقة فقد طغت على الحياة الامور المادية . ولعلّ من أبرز الأسباب هي الظروف السياسية والتغييرات الديمغرافية والجغرافية التي حدثت خلال السنوات الخمسين الماضية في المنطقة ، فقد كانت علاقة الإنسان بمجتمعه وثيقة دافئة، كان أقرب إلى الاستقامة والصلاح في سلوكه وسيرته، وأكثر اندفاعاً الفاعلية وألانتاج او ألحياة بطبيعتها فيها ضغوط ومشاكل، خصوصاً في هذا العصر، فيحتاج الإنسان إلى مَن يتضامن معه نفسياً، وإلى مَن يقترّب منه روحياً، ليخفف عنه الآلام، ويرفع من معنوياته. ويحتاج الإنسان إلى مَن يستشيره ليستفيد من رأيه.بينما يساعد الفتور والبرود في العلاقات الاجتماعية على ظهور ونمو السلوكيات المنحرفة الخاطئة .
حلول شهر رمضان في محلة باب الشيخ له طعم ونكهة خاصة يعرفها اهالي بغداد كما يعرفها اهالي باب الشيخ ويعيشها اهلها عبر العصور،كان اهل محلة يستقبلون قدومه شهر رمضان حين يقترب موعد مراقبة الهلال وعن رؤيته يصعد اهالي باب الشيخ الى سطوح دورهم العالية لمراقبة السماء وحين يظهر الهلال تزف البشائر بالتكبير والتهليل وإطلاق العيارات النارية من مسدسات مثل (ألوبلي) ابو البكرة في الهواء وتهلل النسوة بالزغاريد ويكبر المؤذن من على منارة الحضرة القادرية فرحا وابتهاجا لمقدم الشهر بعد ذلك تبدأ مراسم استقبال رمضان بأعداد المطبخ العائد الى المسجد القادري (الشوربة خانة) وتطهى في القدور الكبيرة وجبات الافطار الواسعة العامرة والتي تقام في كل يوم من ايام شهر الصوم.
ولهذه الموائد التي كانت تقام في الماضي البعيد في ديوان الاسرة الكيلانية (الدركاه او الديوه خانه) من قبل السادة الكيلانيين باسلوب خاص متبع لديهم منذ العهد العثماني، اذ كانت هذه الوجبات تقدم لجميع شرائح المجتمع من كل يوم وجبة افطار لطبقة من الناس وكانت تتم طيلة ايام شهر رمضان في (الديوه خانة) اي ديوان الحضرة القادرية التي تقابلها والتي يفصل بينهما شارع الكيلاني.لقد اشتهرت المنطقة برواد المقام العراقي و بأتقأنهم لقرائته ومعرفة فنونه حيث انتشرت المقاهي التي كانت تحيط بالمرقد وتضج بأشهر قراء المناقب النبوية والاحتفالات الدينية والمناسبات الخاصة مثل الزواج والختان ويقال ان عملية الجلوس لساعات الطويلة خلف ألة ( ألجومة ) وهي ألة فيها عتلات يتم ربط الخيوط من ( القطن او الصوف او البريسم ) فيها يستفاد منها للحياكة يدوياً وكانت من أهم ألاسباب التي جعلتهم ان يجدوا ما يؤنسهم في قراءتهم لهذا الفن العريق والاصيل، وكم اليوم نحن في امس الحاجة لمثل هذه الممارسات والانشطة فيجعل الانسان يقترب نفسياً مع اخيه وإلى مَن يقترّب منه روحياً، ليخفف عن مصائبه، و يرفع من قدرته لمقاومة الصعاب. ويحتاج الإنسان إلى مَن يقف الى جانبة ويُعبّر عنه بإدخال السرور إلى قلب أخيه....