شفق نيوز/ يستذكر الكورد الفيليون في الأسبوع الأول من شهر نيسان كل عام ذكرى يوم الشهيد الفيلي، وبهذه الذكرى يتم استذكار الإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام البعثي بحقهم فيما يقيم عدداً من ذوي الضحايا وقفات استذكارية وجلسات تأبينية.
وتمر في هذه الأيام الذكرى الرابعة والأربعين لتهجير أعداد هائلة من العراقيين من أراضيهم وبيوتهم بذرائع عنصرية وطائفية، إذ شهد شهر نيسان من عام 1980 بدء أبشع عملية تهجير جماعية بدأت منذ الرابع من الشهر وتواصلت طيلة المدة اللاحقة.
وبدأت تلك الجرائم منذ عام 1969، حين شنت حكومة حزب البعث التي تسلمت السلطة بانقلاب عسكري في عام 1968 حملة ترحيل ونفي قسري استهدفت الكورد الفيليين لأسباب عرقية ومذهبية، إذ جرى في عام 1970، ترحيل أكثر من 70 ألف فيلي إلى إيران وسحبت جنسيتهم العراقية، وجرى الإبلاغ عن كثير من حالات الاختفاء والإعدام بين عامي 1970 و1973.
ورغم أن محطات الخوف والاضطهاد التي مرت على العراقيين في زمن الحكم الدكتاتوري كثيرة، إلا أن بعضها بات معلماً بارزاً على الظلم والوحشية التي راح ضحيتها عشرات الآلاف وتركت في من حالفه الحظ وبقي على قيد الحياة آثاراً جسدية ونفسية.
سجن "نقرة السلمان" واحداً من تلك المعالم الذي كان مجرد ذكر اسمه يثير الرعب والشعور بالنهاية في النفوس، والذي يقع في صحراء قاحلة بقضاء نقرة السلمان التابع لمحافظة المثنى جنوبي العراق.
وأطلقت تسمية "مدينة السجون" على قضاء السلمان عام 1928 عندما قام الإنكليز إبان احتلالهم للعراق، ببناء قلعة السلمان لصد الهجمات التي تقوم بها الحركات الوهابية آنذاك ومقراً لإدارة البادية الجنوبية، وفي عام 1948 تم تحويل القلعة إلى سجن، كما تم عام 1981 بناء قلعة اتخذت مقراً لحرس الحدود ثم تحولت لاحقاً إلى سجن.
وفي زمن أول رئيس للعراق في عهد حزب البعث أحمد حسن البكر تم بناء 120 داراً لإسكان البدو الرحل، وتحولت في ثمانينات القرن الماضي إلى سجون أيضاً.
وبلغت أعداد المرحلين والمفقودين من الكورد الفيليين بين (1980 ـ 1990) نحو 1,3 مليون شخص، كما جرى زجّ نحو 22 ألف من شباب الكورد الفيليين في معتقل نقرة السلمان.
ويقع قضاء السلمان في بادية السماوة وسط وادٍ كبير، ويبلغ عدد سكان القضاء حسب وزارة التخطيط 9348 ألف نسمة يعيش الغالبية منهم على تربية المواشي والإبل والزراعة التي تعتمد بدورها على الآبار الإرتوازية.
ذكريات مؤلمة
تستذكر السيدة صباح الجادري أهوال سجن "نقرة السلمان" التي أودع فيه أخيها إلى جانب عدد من أقربائها عندما كانت تذهب إليه لزيارتهم "المواجهة".
تقول الجادري لوكالة شفق نيوز، إن شباباً بعمر الورد تم اعتقالهم بلا ذنب سوى أن قوميتهم تنتمي إلى الكوردية الفيلية فقط، حيث جرى اعتقال أخي واثنين من أولاد خالي وابن عم والدي.
أما أخي عماد محسن الجادري مواليد 1966، فقد كان طالباً بالمرحلة الرابعة بكلية الإدارة والاقتصاد في جامعة بغداد، وكان من الأوائل، وتم اعتقاله في الانتفاضة الشعبانية وبعد 5 أيام علمنا باستشهاده بتهمة ما سُمي بـ"الغوغائيين المخربين".
وتضيف الجادري، على إثر ذلك تعرض أبي لجلطة دماغية وتوفي، ومن ثم أصيبت أمي بالزهايمر وتوفيت أيضاً، فيما هاجر أخوتي الباقين إلى خارج العراق بعد تلك المآسي المتتالية، ورغم ذلك كان رجال الأمن يهددون ما بقي من العائلة بين الحين الآخر.
أما أولاد خالي الاثنين، فقد كان الأول من مواليد 1963 والآخر 1962، وفي وقت اعتقالهم كانت أعمارهم تتراوح ما بين 14 إلى 16 عاماً، وتم إرسالهم إلى نقرة السلمان.
وتروي الجادري ما كانت تشاهده خلال زياراتها إلى قلعة نقرة السلمان لمواجهة أولاد خالها، أن السجن يبعد عن بغداد حوالي 400 كم، لذلك كان الخروج في الليل من أجل الوصول صباحاً إلى السجن في موعد المواجهة، وكنتُ أشاهد في الصحراء القاحلة عيون تبرق وسط الظلام وعند التساؤل عنها قيل أنها عيون الذئاب.
وأغلب من كان يذهب إلى المواجهة هن النساء من (الخالة والعمة والجيران والأصدقاء)، أما عوائل السجناء فقد كانوا مُبعدين، فيما كان الرجال يتجنبون الذهاب للسجن خشية الحجز والاعتقال فيه.
وكانت الزيارة تتم في أجواء مليئة بالإهانة والذل، فضلاً عن سب وشتم الزائرين وحتى ضربهم بالسياط، رغم أنهم عزل وليس لهم علاقة بأي شيء، بل هدفهم التواصل مع السجين ومواجهته فقط.
وتتابع الجادري حديثها، أن أحد أولاد خالي وهو حازم شيخ موسى حسين، تم قتله وهو في داخل السجن من قبل معتقل آخر بعد طعنه بسكين في خاصرته، ومات عطاشاً لرفضه شرب الماء وقال "أريد أن أكون مع الإمام الحسين الذي ذهاب عطشاناً".
أما أخوه كاظم شيخ موسى حسين، فقد تم الإفراج عنه لكن خرج بنفسية صعبة لقتل أخيه أمام عينيه، وبقى ملاحقاً من قبل رجال الأمن لذلك غادر إلى إيران، ورغم أنه تزوج وأصبح لديه أولاد لكنه لا يزال يعاني من الاضطهاد والحزن الذي عاشه، فيما لم يعلم مصير جثمان أخيه حتى الآن.
أما ابن عم والدي، علي حسين لفتة، فقد كان استاذاً جامعياً ذو أخلاق عالية، وتم اعتقاله أيضاً وكان خاطباً في حينها، ودفن في المقابر الجماعية، ولم نعثر على جثته لحد الآن، فيما قامت أخته بجعل قبر رمزي له في مقبرة وادي السلام، ودفنت فيه أوراقه وأقلامه.
وتؤكد الجادري، أنها لم تستلم أي حقوق لأخيها الشهيد، بداعي أن الاستشهاد لم يتم بقرار سياسي، ومع العلم أن شهادة الوفاة أخذت من جهاز الأمن الخاص، "فنحن في معاناة ومأساة مستمرة منذ زمن النظام البائد ومن بعده".
حفل تأبيني في بغداد
وأقيم في بغداد، اليوم السبت، حفل تأبيني بمناسبة يوم الشهيد الفيلي برعاية رئيس مجلس النواب بالإنابة محسن المندلاوي بالتعاون مع مؤسسة الشهداء، بمشاركة نيابية وحكومية ودبلوماسية وثقافية واجتماعية.
وأكد المندلاوي، في كلمة له بالحفل، أن النظام العراقي السابق أقدم على إعدام أكثر من 20 ألف شخص من الكورد الفيليين وتهجير 130 ألف أسرة من هذه الشريحة إلى إيران في بداية الثمانينيات من القرن المنصرم.
فيما ندد رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، خلال كلمة له بالحفل نفسه، بعدم إلغاء عبارة "تبعية" التي كانت تكتب ضد الكورد الفيليين في النظام السابق، وقال إن هذا المكون ليس أقلية.
إلى ذلك، دعت كتلة الحزب الديمقراطي الكوردستاني في مجلس النواب، في بيان ورد لوكالة شفق نيوز، أمس الجمعة، الحكومة العراقية، إلى إعادة جميع حقوق الكورد الفيليين من أموال وممتلكات سلبها النظام البائد، من أجل تعويضهم عن الجرائم التي حصلت معهم ومنحهم الجنسية العراقية.
مآسي الفيليين والبارزانيين
يقول الكاتب والصحفي، عامر موسى الشيخ، إن "أزلام النظام السابق بعد عمليات الانفال وحلبجة كانوا يطلقون على الكورد (العصاة)، وكانوا يأخذونهم إلى نقرة السلمان وخاصة البارزانيين والمؤنفلين، وكنا نعرفهم من ملابسهم وألوانها رغم صغر سِننا، وفي مفهوم الجنوب العراقي أن من يذهب إلى نقرة السلمان أما يُسجن أو يُنفى".
ويضيف لوكالة شفق نيوز، أن "سجن قلعة السلمان كان يزج به المعارضون للنظام السابق، وتم حجز أبناء كوردستان من البارزانيين والفيليين في ذلك المكان، وتعرضوا إلى التعذيب والتجويع، فيما تعرضن النساء للاغتصاب، وبعضهم جرى قتلهم بمقابر جماعية خارج أسوار السجن".
ويتابع، "أما من حاول الهروب فقد مات في الطريق، إذ إن السجن في عمق البادية الجنوبية بمسافة 200 كم، وتخلو تلك الصحراء من الأشجار أو البحيرات ليأكل ويشرب منها من يهرب، فيما تعج تلك المنطقة بالذئاب والحيوانات المفترسة، لذلك أغلب من كان في ذلك السجن توفى بمقابر جماعية".
يشار إلى أن محكمة الجنايات العليا حكمها أصدرت في العام 2010 بشأن جرائم التهجير والتغييب ومصادرة حقوق الكورد الفيليين وعدها من جرائم الإبادة الجماعية.
وأصدرت الحكومة العراقية في الثامن من كانون الأول 2010، قراراً تعهدت بموجبه بإزالة الآثار السيئة لاستهداف الكورد الفيليين فيما أعقبه قرار من مجلس النواب في الأول من آب من العام 2010، عد بموجبه عملية التهجير والتغييب القسري للفيليين جريمة إبادة جماعية.
بدوره، يذكر قائمقام قضاء السلمان، علي مخلف، أن "ذوي الضحايا بدأوا يأتون إلى السجن بعد عام 2003 وخاصة من الكورد الفيليين، وكانوا يروون قصصاً صادمة عن ما حل بعوائلهم وأقربائهم".
ويضيف مخلف لوكالة شفق نيوز، أن "واحدة من أصعب القصص هي ما روتها أم كوردية - كنتُ قد التقيت بها العام الماضي 2023 - لما حصل مع ابنها، قالت إن ابني توفى في السجن، وجاء رجال الأمن لدفنه، لكني بقيت في باب القلعة انتظر، وإذا بي أرى بعد نصف ساعة يد ابني في فم الكلب، فكانت هذه من القصص الصادمة لما عانته تلك العائلات".
ويشير قائمقام قضاء السلمان إلى أن "السجن متروك حالياً ومتاح للزائرين، وتم الطلب ليكون متحفاً للمحافظة على مظلومية الكورد الذين تم سجنهم فيه".
يذكر أن النظام السابق الذي رأسه صدام حسين ولنحو ثلاثة عقود ساق آلاف الشبان من الكورد الفيليين إلى أماكن غير معلومة وما يزال مصيرهم مجهولاً ويرجح بأنهم قضوا في المعتقلات أو دفنوا أحياء في مقابر جماعية.
وشرع نظام البعث في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن المنصرم بحملة كبيرة لتهجير الكورد الفيليين، وسحب الجنسية العراقية منهم ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة.
كما تعرض الكورد الفيليون للتسفير والتهجير والاعتقال والقتل إبان حكم الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر في عامي 1970 و1975، ومن بعده نظام صدام حسين في 1980، ويرى مؤرخون يرون أن التهجير جاء بسبب انتماءاتهم المذهبية والقومية.