شفق نيوز/ رغم توقف حركتها منذ سنوات بسبب التدمير والأعطال، لا يزال "عامر عبد الله" يتفقد باستمرار قاطرته في محطة الموصل في محافظة نينوى، التي كانت يوما صلة وصل بين العراق والعالم.

وبحسب تحقيق صحفي نشرته وكالة الصحافة الفرنسية، فأن القطارات متوقفة عن العمل منذ عام 2010، وأن نسبة دمار محطة الموصل بعد استعادتها من قبضة تنظيم داعش وصلت إلى 80%.

وجراء النزاعات والسياسة، فإن مسار "توروس إكسبرس" (Taurus Express) تقلص تمامًا بعد إن ربط منذ بداية القرن 20 بين البصرة في جنوب العراق وبغداد، وتركيا، امتدادا بقطار الشرق السريع "أورينت إكسبرس" (Orient Express)، الذي كان يربط بين مدينة إسطنبول التركية ومدن أوروبية مثل فيينا وبرلين وباريس والبندقية وغيرها.

وبعيد الغزو الأميركي للعراق، انخفضت حركة السكك الحديدية في الموصل بشكل كبير، وواصل قطاران فقط المغادرة كل أسبوع باتجاه غازي عنتاب في تركيا، حتى صيف عام 2010.

ويقول عبد الله (47 عاما)، الذي كان يسمّي قاطرته "الحبيبة"، إنه "قبل ظروف الموصل كنت أنقل المسافرين والبضائع يوميا من الموصل وإليها، باتجاه بغداد والمحافظات العراقية الأخرى وسوريا، وأستمتع بعملي الذي حُرمت اليوم منه".

 

تخريب وأنقاض

ما تزال آثار الخراب والقصف واضحة في كل زاوية على أرض محطة قطار الموصل، بعدما حولتها التفجيرات إلى كتلة من الأنقاض، وهدمت أبنيتها التاريخية، في حين طال التخريب أغلب خطوط السكك وخرجت عن مسارها.

أما القطارات، التي أوقفت يوما صفيرها من أجل عيون الفنانة اللبنانية صباح، حين أحيت حفلا غنائيا في المدينة، باتت اليوم هياكل حديدية صدئة، بلا أبواب أو نوافذ أو مقاعد.

ويستذكر علي عكلة (58 عاما)، وهو أب لـ7 أبناء، كيف كان يدفع "ألفا أو ألفي دينار فقط" (أقل من دولارين)" للسفر إلى بغداد أو المحافظات الأخرى.

ويضيف "سابقا، كنت أشحن بضائع من بغداد والمحافظات الأخرى إلى الموصل عبر القطارات بتكلفة مالية مناسبة، وضمان إيصال البضاعة من دون تأخير أو أضرار".

ملحقات ومرافق عدة كانت تضمها محطة قطار الموصل، منها قاعة ملكية كبيرة تعود للملك فيصل الأول، وتعد أقدم قاعة ملكية في العراق، حسب ما يقوله المهندس في المحطة محمد عبد العزيز، الذي بات عاطلاً عن العمل -تقنيًا- منذ سنوات.

يقول عبد العزيز إن "المحطة كانت تضم دار استراحة، وفندقا يعد الأقدم في الموصل، ومقهى وحدائق وأماكن وقوف السيارات وعربات نقل الركاب التي تجرها الخيول"، لافتا إلى أن "واردات المحطة كانت تشكل مصدر عيش لمئات العائلات؛ كالموظفين والعمال والباعة وأصحاب المحلات والمطاعم وسائقي الأجرة، وغيرهم".

فعبر الموصل، مرّ أول قطار من بغداد إلى إسطنبول في الأول من يونيو/حزيران 1940، لكن العاصمة العراقية لم تعد اليوم مربوطة إلا بالفلوجة غربا، وكربلاء والبصرة جنوبا. وهو مستوى بعيد جدا عن 72 رحلة يومية كانت تسيّر على ألفي كيلومتر من السكك الحديدية في حقبة ما قبل الحصار الذي فرض على العراق في تسعينيات القرن الماضي بعد غزو الكويت.

وكان العراق في طليعة التقدم والتطور في الشرق الأوسط؛ فمنذ عام 1869 كان "الترام واي" (قطار صغير داخل المدن) موجودا في بغداد، ولكن لم يبق منه شيء اليوم، لا العربات الخشبية الأنيقة ولا حتى السكك التي ابتلعها التمدد العمراني في العاصمة.

 

احتضار طويل

احتضار محطة الموصل كان طويلا؛ ففي 31 مارس/آذار 2009، فجرت شاحنة مفخخة جزءا منها، وفي الأول من يوليو/تموز 2010 غادر آخر قطار بتذكرة ذهاب فقط إلى غازي عنتاب التركية.

لكن الموصل، التي كانت يوما مركزاً تجارياً للشرق الأوسط، صارت خرابا بفعل معارك الجيش العراقي ضد تنظيم داعش، الذي كان مسيطرا على المدينة بين عامي 2014 و2017.

يقول معاون مدير سكك المنطقة الشمالية المهندس قحطان لقمان إن "نسبة دمار المحطة قبل وخلال استعادة الموصل من قبضة تنظيم الدولة وصلت إلى 80%".

فلا يزال أثر الرصاص واضح المعالم على الأعمدة والأرصفة وواجهة المحطة، وبالكاد يمكن رؤية الفسيفساء التي كانت تغطي أرض وجدران القاعة. ويوضح لقمان أن "إعادة الإعمار تشوبها معوقات مالية، ولا يوجد سقف زمني".

 

العصر الذهبي

ذكريات جميلة تربط العديد من الموصليين بقاطرات المحطة، كما تقول نور محمد (37 عاما)، وتتذكر أنه حين كان عمرها 10 سنوات كانت جدتي تأخذنا في القطار من الموصل إلى بلدة حمام العليل السياحية (جنوب شرقي المدينة) المعروفة بمياهها الكبريتية الحارة، ومعنا عائلات كثيرة من الأقارب والجيران".

باختفاء هذه المحطة يختفي جزء من تاريخ العراق، ومدينة الموصل الإستراتيجية على الحدود مع سوريا وتركيا.

ويقول مدير محطة قطار الموصل محمد أحمد "لقد زار العديد من الرؤساء والملوك والمسؤولين الكبار والفنانين المعروفين محطة قطار الموصل على امتداد تاريخها".

ففيها طورت الروائية البريطانية أغاثا كريستي مغامراتها البوليسية، وغنت كوكب الشرق أم كلثوم في قاعة الاستقبال الملكية الملحقة بالمحطة.