شفق نيوز- السليمانية

في مدينة تتنفس التاريخ مثل السليمانية، وبين الأزقة العتيقة التي تحتضن إرثاً يمتد لأكثر من قرنين، يقاوم حمّام "سورت"، أحد أقدم حمّامات المدينة، محاولات الاندثار وسط تحديات اقتصادية وإدارية تعصف بهذا النوع من الإرث. 

ورغم مكانته التاريخية وذكرياته التي لا تزال نابضة لدى رواده القدامى، فإن تراجع الإقبال وارتفاع تكاليف التشغيل يهددان بإطفاء آخر ما تبقى من دفء هذه الحمّامات التاريخية.

وقال صاحب الحمام، أحد أقدم العاملين في هذا القطاع، سركوت محمد، لوكالة شفق نيوز، إن "تراجع الإقبال خلال السنوات الأخيرة يعود أساساً إلى غياب الدعم الحكومي وارتفاع تكاليف الوقود، وهو ما ضاعف من أعباء تشغيل الحمّامات".

وأضاف أن "سعر الگاز اليوم يصل إلى 700 دينار للتر، بينما يحتاج الحمّام يومياً إلى ما يقارب 150 لتراً لتسخين المياه، وهو رقم كبير لا يتناسب مع حجم الإيرادات"، مبيناً أن "هذه التكاليف المرتفعة دفعت بالكثير من أصحاب الحمّامات إلى الإغلاق أو العمل بأدنى طاقة ممكنة".

وبحسب سركوت، فإن "هذا الحمّام يعمل منذ العام 1965 بإدارة عائلته، رغم أن جذوره تعود إلى تاريخ تأسيس المدينة"، مشيراً إلى أن "عدد الحمّامات في السليمانية كان 21 حمّاماً، ولم يتبق منها اليوم سوى أربعة فقط موزعة في مركز المحافظة".

وأوضح، أن "حركة الزبائن تختلف باختلاف المواسم، حيث يعد فصل الشتاء الأفضل نسبياً"، لافتا إلى أنه "في الصيف يكون الإقبال ضعيفاً جداً لأن أغلب الناس يعتمدون على حمّامات منازلهم، أما في الشتاء فيأتي نوعان من الزبائن وهم الدائمون الذين اعتادوا الحمّام الشعبي، والعمال والسائقون، إضافة إلى الزوار القادمين من وسط وجنوب العراق".

وحول أسباب عدم تطوير الحمّامات الشعبية أو تجديدها بما يتناسب مع المتطلبات الحديثة، أجاب سركوت قائلا: "إن أي عملية ترميم أو صبغ داخلي تحتاج إلى موافقات من دائرة الآثار في السليمانية"، مبيناً أنه "لا نستطيع إجراء أي تعديل دون موافقة رسمية، وهذا يجعل عمليات التطوير بطيئة أو شبه متوقفة، رغم الحاجة الملحّة إليها".

وتُظهر بيانات تاريخية أن حمّام "سورت" من أقدم الحمّامات في المدينة، ويعود إلى الحقبة البابانية، وتذكر وثائق أخرى أن سبب تسميته بـ"سورت" أو "صورت" يعود إلى وجود رسومات وصور على قبة الحمّام قديماً، قبل أن تتعرض للتلف مع مرور الزمن.

إلى ذلك، رأى الباحث في التاريخ الاجتماعي، عبد الخالق صابر، أن "الحمّامات الشعبية كانت جزءاً أساسياً من الحياة اليومية للسكان، وكانت تمثل مكاناً للتواصل الاجتماعي والتعارف والراحة، وليست مجرد مكان للاستحمام".

وأضاف صابر في حديثه، للوكالة، أن "تراجعها يعني تراجع جزء من الذاكرة الاجتماعية للمدينة".

ورغم تراجع الحمّامات الشعبية الخاصة، فإن مؤسسات حكومية في السليمانية رممت خلال السنوات الأخيرة عدداً من الحمّامات الأثرية، أبرزها حمّام فاطمة خان الذي اكتملت أعمال إحيائه العام الماضي، مع العثور على أكثر من 300 قطعة أثرية أثناء عمليات التنقيب.

إلا أن سركوت يقول إن، "هذه المشاريع تخص الآثار فقط ولا تنعكس على الحمّامات العاملة التي تحتاج دعماً مباشراً في الوقود والمستلزمات".

في المقابل، أكد فلاح جلال وهو أحد الزبائن الدائمين لحمّام "سورت"، للوكالة أن "زيارة الحمّام الشعبي ليست مجرد حاجة، بل عادة قديمة ورائحة مميزة لا يمكن تعويضها"، مبينا أن "هناك دفئاً مختلفاً في الحمّامات التقليدية، لكن الكثيرين تركوا هذه العادة بسبب الظروف الاقتصادية".

أما السائق جبار كريم، فقد أشار إلى أن "العمال والسواق ما زالوا يرتادون الحمّامات، خاصة في الشتاء، لكن أعدادهم ليست كافية لخلق إيرادات تغطي التكاليف".

وبحسب المؤشرات الحالية، فإن مستقبل الحمّامات الشعبية يبدو مهدداً، فارتفاع أسعار الوقود، وتراجع الإقبال، وغياب الدعم، وتقييد عمليات التطوير، كلها عوامل تجعل استمرارها صعباً.

رغم تأكيدات صاحب حمّام "سورت"، أنه سيواصل العمل طالما بقيت هناك قدرة على تشغيل الحمّام، قائلاً، إن "هذا المكان ليس مهنة فقط، بل تاريخ عائلتي وتاريخ السليمانية وسنستمر ما استطعنا".