شفق نيوز/ في أحد الأزقة القديمة داخل سوق
"صابون كَران" الشعبي في مدينة السليمانية، حيث تلتقي رائحة الجلد بدخان
السجائر وأحاديث الزبائن المتناثرة بين الدكاكين، يجلس سامان سعيد، آخر من تبقى من
جيل الإسكافيين التقليديين في هذا السوق العريق.
سامان، البالغ من العمر 48 عامًا، لا يعرف مهنة
غيرها، فقد ورثها عن والده وجده اللذين عملا في السوق ذاته منذ أوائل القرن
الماضي، ورغم ما شهدته السليمانية من تحولات عمرانية وتجارية واقتصادية، ظل سامان
متمسكًا بورشته الصغيرة، التي تعج بالأدوات التقليدية: مكبس حديدي، خيوط نايلون،
إبر غليظة، جلود متعددة الأنواع، ورفوف تحكي قصة تاريخ كامل.
"السوق بيتي الثاني"
يقول سامان سعيد، لوكالة شفق نيوز: "منذ
أن كنت طفلاً صغيراً، كنت أجلس بجانب والدي وجدي أراقبهم كيف يرقعون الأحذية
ويخيطونها، كانت المهنة تنبض بالحياة آنذاك، وكان لدينا صف من الزبائن ينتظرون
دورهم، و كنت أظن وقتها أن هذه المهنة سترافقني طوال عمري، لكنها اليوم تتآكل بصمت."
ويضيف بنبرة مختلطة بين الفخر والأسى:
"سوق صابون كَران كان يعج بالإسكافيين، واليوم لم يتبق منا سوى اثنين او
ثلاثة فقط، فمعظم الزبائن أصبحوا يشترون أحذية رخيصة ويستغنون عن الإصلاح، لأن
تكلفة التصليح تقترب من سعر حذاء جديد مستورد من الصين أو تركيا".
الإسكافي..
حِرَفيّ أكثر من مجرد ترقيع
وحول طبيعة عمله، يوضح سامان: "الناس تظن
أن الإسكافي فقط يُصلح الأحذية، لكننا نصنع أحيانًا منتجات جلدية من الصفر: محافظ،
أحزمة، أغطية أدوات موسيقية، ونقوم بتعديل مقاسات الأحذية حسب طلب الزبون، نحن
نعالج الأخطاء التي لا تلاحظها الآلة، ونعيد الحياة لشيء اعتقد صاحبه أنه انتهى".
الممارسة
الطويلة
ويتحدث سامان عن المتطلبات التي يحتاجها الشاب
الذي يريد دخول هذه المهنة قائلاً: "المهنة هذه لا تُتعلّم في دورة أسبوعية،
تحتاج لسنوات من الجلوس والمراقبة والتجريب، و يجب أن تتحلى بصبر طويل، ويدك يجب
أن تكون دقيقة لأن الجلد لا يرحم الخطأ، وإذا أخطأت في الغرز، تخسر الزبون، وتخسر
سمعتك."
تاريخ الإسكافي
بين الكورد
ولا يخفي سامان اعتزازه بجذور هذه المهنة لدى
الكورد، مضيفًا: "في كل قرية كوردية قديمة، كان هناك إسكافي، ولم يكن مجرد
مصلح، بل صانع موثوق، كانت الناس تأتيه وتطلب منه أن يصمم حذاءً خاصًا أو أن يُصلح
حذاء الزفاف، أو حذاء الطفل الأول، وهذه المهنة كانت تُعتبر من أركان السوق
القديم، مثل الحداد والخياط."
الأسباب
الحقيقية لانحدار المهنة
وعن أسباب تراجع المهنة، يقول سامان:
"أولاً، غزو الأحذية المستوردة الرخيصة، ثانياً، ضعف الدعم الحكومي للحرفيين،
وثالثاً، غياب المعاهد التي تدرّس أو تدرب الشباب على هذه المهنة، وأخيراً، نظرة
المجتمع التي أصبحت ترى هذه المهنة متعبة ومحدودة الدخل."
ويتابع: "أنا أعمل من الساعة التاسعة
صباحًا حتى الثامنة مساءً، وأحيانًا لا أحصل أكثر من 15 ألف دينار في اليوم،
ولكنني مستمر، لأنها مصدر رزقي وهي الكرامة التي ورثتها عن أبي".
نداء لإنقاذ ما
تبقى
وفي ختام حديثه، يوجه سامان نداءً عبر وكالة
شفق نيوز إلى الجهات المعنية: "أتمنى من الحكومة والمؤسسات الثقافية أن تنقذ
هذه المهنة قبل أن تنقرض نهائيا، نحن جزء من ذاكرة السوق، من نسيج المدينة، وإذا
انتهينا، فإن صفحة كاملة من التاريخ الكوردي ستُطوى بصمت."