شفق نيوز- واشنطن

كشف تقرير سري لوزارة الخارجية الأميركية عن المئات من الانتهاكات لحقوق الإنسان التي ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، وهو ما يضع إدارة رئيس البيت الأبيض دونالد ترمب في موقف محرج، بحسب صحيفة "واشنطن بوست".

وذكرت الصحيفة أن هيئة الرقابة بالخارجية الأميركية كشفت عن هذه الانتهاكات التي تضع إدارة ترمب أمام اختبار صعب يتعلق بمدى التزامها بقانون "ليهي".

ويحظر هذا القانون، الذي سُنّ، في تسعينيات القرن الماضي، تقديم المساعدات العسكرية الأميركية للوحدات الأجنبية المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

لكن التقرير يشير إلى أن عملية المراجعة داخل الخارجية الأميركية قد تستغرق "عدة سنوات"، وهو ما يثير مخاوف من ضياع فرص المساءلة وسط بطء الإجراءات وتعقيداتها.

ويُعد هذا التقرير أول اعتراف حكومي أميركي صريح بحجم الانتهاكات المحتملة التي قد تندرج تحت مظلة القانون، وهو ما قد يشكل سابقة في العلاقة الحساسة بين واشنطن وتل أبيب.

وقال مسؤولون أميركيون مطلعون لـ"واشنطن بوست" إن المراجعة البيروقراطية المعقدة، المقصودة أو غير المقصودة، تمنح إسرائيل "ميزة استثنائية" مقارنة بالدول الأخرى المتهمة بارتكاب انتهاكات مشابهة.

من جانبه، أبدى المسؤول الأميركي السابق تشارلز بلاها، الذي أشرف، سابقاً، على تطبيق قانون "ليهي"، مخاوفه من أن "تُنسى المساءلة مع انحسار صخب الحرب"، في إشارة إلى الجمود الذي يهيمن على آليات التحقيق داخل الخارجية الأميركية.

يفصّل التقرير السري، وفقاً للمسؤولين الذين تحدثوا بشرط عدم الكشف عن أسمائهم، الإجراءات الخاصة التي تخضع لها إسرائيل فيما يتعلق بمراجعة الانتهاكات المحتملة.

فبينما يمكن لمسؤول أميركي واحد أن يوقف المساعدات لأي وحدة أجنبية يشتبه في ارتكابها انتهاكات، يتطلب الأمر في حالة إسرائيل اجماعاً داخل "منتدى إسرائيل ليهي للتحقق"، هو هيكل بيروقراطي فريد يضم مسؤولين من السفارة الأميركية في القدس ومكتب شؤون الشرق الأدنى، وهما جهتان عادةً ما تدافعان عن الموقف الإسرائيلي داخل النظام الأميركي.

ووفقاً للآلية، يتم إشعار الحكومة الإسرائيلية بالاتهامات ومنحها فرصة لتقديم تفسيرات أو إجراءات تصحيحية قبل اتخاذ أي قرار.

وبعد اكتمال المراجعة، يمكن للمجموعة التوصية باعتبار الوحدة "غير مؤهلة" لتلقي الدعم الأميركي، لكن القرار النهائي يبقى بيد وزير الخارجية.

النتيجة، كما يقول المسؤول السابق في الخارجية جوش بول، هي "نظام معقّد مصمم لتجنّب العقوبات"، إذ لم تُحجب المساعدات عن أي وحدة إسرائيلية رغم وجود أدلة دامغة على انتهاكات موثقة.

بول، الذي استقال احتجاجاً على سياسات واشنطن تجاه الحرب في غزة، اعتبر أن "الولايات المتحدة تُخضع القانون لمعادلات سياسية لا لمعايير العدالة".

هذه الإجراءات المعقدة ساهمت في تراكم ملف الانتهاكات التي لم تُراجع بعد، وتشمل حوادث بارزة مثل مقتل سبعة عمال إغاثة من منظمة "وورلد سنترال كيتشن" في نيسان/ أبريل 2024، ومقتل أكثر من 100 فلسطيني تجمعوا حول شاحنات مساعدات في شباط/ فبراير من العام ذاته.

ورغم أن إدارة بايدن أشارت إلى هذه الحوادث في تقاريرها إلى الكونغرس، فإنها لم تتوصل إلى "استنتاجات نهائية" بشأن استخدام الأسلحة الأميركية فيها، ما يعزز الانطباع بأن المراجعة تميل إلى التسويف لا المحاسبة.

ويمثل هذا التقرير اختباراً لمصداقية الولايات المتحدة في تطبيق قوانينها الداخلية عندما يتعلق الأمر بحليفها الأقرب في الشرق الأوسط؛ فبينما تؤكد واشنطن التزامها بـ"حقوق الإنسان في صميم السياسة الخارجية"، يسلّط التحقيق الضوء على التناقض بين الخطاب والممارسة.

وتقدّم الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات سنوية تبلغ 3.8 مليار دولار، فضلاً عن حزم دعم إضافية، خلال السنوات الأخيرة، تجاوزت عشرات المليارات.

وهذه المكانة الاستثنائية تجعل أي محاولة لتطبيق "قانون ليهي" على وحدات إسرائيلية بمثابة تحدٍ سياسي داخلي لإدارة بايدن، خاصة في ظل نفوذ اللوبيات المؤيدة لإسرائيل والاعتبارات الانتخابية.

ورغم الجدل، لم تُبدِ إدارة بايدن اختلافاً جوهرياً عن سابقتها في نهج التعامل مع الانتهاكات الإسرائيلية؛ إذ أشار بلاها إلى أنه "لا يرى فرقاً بين بايدن وترامب في هذه القضية"، بينما يرى منتقدون أن الإدارتين تعاملتا مع الجيش الإسرائيلي كـ"استثناء مقدّس" خارج القواعد المعتادة للمساءلة.

وتبرز قضية عمر الأسد، الأميركي من أصل فلسطيني الذي توفي أثناء احتجازه على يد الجيش الإسرائيلي العام 2022، كمثال رمزي لهذا الإعفاء من العقوبة.

فقد خلصت وزارة الخارجية إلى أن "الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل كانت كافية"، رغم أن الجنود المتورطين لم يواجهوا محاكمة جنائية.

في المقابل، يرى بعض المسؤولين الأميركيين أن هيئات الرقابة، رغم ضغوطها، ما زالت تحاول فرض حد أدنى من المساءلة.

فقد أشار تقرير داخلي آخر إلى تحقيقات جارية حول تحويل المساعدات الإنسانية في غزة إلى جماعات مسلحة مثل حماس، في محاولة للتأكيد على أن الرقابة لا تستهدف إسرائيل وحدها.

لكن يبقى السؤال الجوهري: هل يمكن لواشنطن أن تطالب العالم باحترام القانون الدولي وحقوق الإنسان بينما تتغاضى عن انتهاكات حليفها الأقرب؟.

ما يكشفه التقرير السري ليس مجرد تراكم إداري لملفات انتهاكات، بل أزمة عميقة في مصداقية النظام الأميركي الرقابي حين يتصادم القانون مع التحالفات الإستراتيجية؛ حيث إن بطء المراجعات، والتحيز البنيوي في آلية "منتدى إسرائيل ليهي"، وغياب قرارات حازمة حتى الآن، كلها مؤشرات على أن المساءلة قد تظل رهينة الحسابات السياسية.

ومع استمرار معاناة غزة، التي فقدت نحو 70 ألف فلسطيني خلال عامين من الحرب، يبدو أن التحدي الحقيقي أمام واشنطن ليس في إدارة المساعدات، بل في استعادة توازنها الأخلاقي بين المصالح والقيم التي تزعم الدفاع عنها.