شفق نيوز/ في الوقت الذي تخطى فيه تعداد السكان على كوكب الأرض، حاجز الثمانية مليارات نسمة، بدأت سويسرا والكثير من البلدان الصناعية المتقدمة بعد تنازلي لتلك الإحصائية، بنزول معدل الولادات بنسبة كبيرة، حيث سجلت سويسرا وحدها نسبة تحت حاجز التجديد الديمغرافي للسكان البالغ 2.1 أبناء وبنات، للمرأة الواحدة- كما كان في سبعينات القرن الماضي.
ولفتت الأنظار الأرقام التي نشرها المكتب الفدرالي للإحصاء (OFS) في عام 2022، والتي تشير إلى انخفاض معدل الإنجاب إلى أقل من 1.4، فهو أدنى مستوى للولادة يُسجّل في سويسرا منذ عام 2001.
لا يختلف الوضع كثيرا عن بلدان أخرى، وبعد عقود من التقلّص التدريجي لحجم الأسر، سجلت العديد من البلدان في السنوات الأخيرة انخفاضا مشابها في معدلات الإنجاب.
تتركز أدنى هذه المعدلات في منطقة شرق آسيا (0.8 طفل.ة للمرأة الواحدة في كوريا الجنوبية، و1.2 في الصين، و1.3 في اليابان). أما في أوروبا الغربية، فتتصدّر المشهد كل من إيطاليا وإسبانيا، بمعدلات إنجاب لا تتخطى 1.3 في المتوسط.
هذا التراجع يشمل أيضا أيرلندارابط خارجي وفرنسا، اللتيْن كانتا حتى وقت قريب الدافعين الرئيسيين للنمو السكاني في أوروبا، بما في ذلك دول شمال القارة، التي يُنظر إليها عادة كبلدان رائدة في مجال السياسات الأسرية.
ولم تبق إلا بلدان أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث تظل الأسرة الموسعة قيمة وموردا، ومعدلات الإنجاب مرتفعة، على الرغم من تسجيل انخفاض ملحوظ خلال العقود الثلاث الماضية.
ثقل الأبوة والأمومة
يمكن إرجاع انخفاض معدلات الولادة إلى مجموعة من العوالم. وتأتي في مقدمتها، بحسب توماس سوبوتكا، نائب مدير معهد الديمغرافيا في فيينا، العوائق الاجتماعية والاقتصادية مثل ارتفاع تكاليف الإسكان أو الرعاية الصحية وعدم الاستقرار الوظيفي، مقابل ركود في الأجور.
من ناحية أخرى، ترافق تحرير سوق العمل بظهور طموحات عالية جدا في المجال المهني من الصعب التوفيق بينها وبين تربية الأطفال، بنينا وبناتا، ورعايتهم.هن. ناهيك أن نظرة المجتمع ذاتها إلى الأطفال قد تغيّرت، كما يشير فيليب فانر، أستاذ بمعهد الدراسات الديمغرافية في جنيف، حيث يُنظر اليوم إلى الطفل أكثر من ذي قبل كعبء قبل كل شيء.
لم تعد الأبوة والأمومة مشروع حياة مغريا. ويوضّح توماس سوبوتكا: "ينظر الكثير من الشبان المتقدمين في العمر إلى عالم اليوم كعالم ظالم"، وعندما يقرر الأزواج، أو إذا ما قرروا أخيرا خوض هذه التجربة، يحصل ذلك غالبا مع منتصف أو في نهاية العقد الثالث من العمر، أي عندما يكونوا على حافة العقم البيولوجي.
هرم أعمار معكوس
إن تراجع عدد الأطفال من شأنه أن يفتح آفاقا جديدة، خاصة بالنسبة للنساء، كما ينتج عنه انفراجا في الضغط الاجتماعي الناتج عن تصوّر معيّن للأسرة المثالية.
ولا يُفترض أن يُلحق انخفاض معدلات الولادة ضررا بالمجتمع على المدى القريب، لأنه يسمح بتوفّر موارد أكبر لتغطية الاحتياجات الصحية والتعليمية لكل فرد، ثم المزيد من الوقت للبالغين.ات، وبالتالي المزيد من الإنتاجية.
لكن هذا السيناريو الديمغرافي يصبح مثيرا للقلق على المدى البعيد. لقد بدأ هرم الأعمار بالفعل يسلك اتجاها معاكسا. ومن المنتظر أن تتفاقم ظاهرة شيخوخة السكان في العقود القادمة، مما سيجعل المجتمع في مواجهة نقص كبير في اليد العاملة، وأمام اختلال توازن نظام التأمينات الاجتماعية.
وإذا كانت بعض البلدان، على غرار سويسرا، قد تمكنت حتى الآن من الاستفادة من الهجرة لتخفيف الصدمة، فإن النظر إلى الهجرة كحل مستدام يُعد مراهنة سياسية محفوفة بالمخاطر، ولا يمكن ضمان فعاليتها على المدى البعيد.
إعادة تنشيط الإنجاب
في هذا السياق، اتخذت بعض الحكومات تدابير تهدف إلى تعزيز معدلات الإنجاب. في فرنسا، قطع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، على نفسه وعدا بإعادة "تجهيز فرنسا ديمغرافيا" عبر اعتماد إجازة ولادة جديدة وخطة لمكافحة انعدام الخصوبة.
وحاولت بعض البلدان الأخرى، مثل كوريا الجنوبية واليونان وهنغاريا، تقديم حوافز مادية، مثل منح الآباء والأمهات الجدد مكافآت وقروض من دون فوائد، ومنحهم.هن حق التصرّف في مساحات من الأراضي.
في بعض البلدان الأخرى، استنجدت السلطات بالروح الوطنية، وأسلوب الفكاهة، لتعزيز تأثير حملات التوعية، مثلما حدث في إيطاليا والدنمارك، على سبيل المثال.
أما في البلدان، ذات الأنظمة الشمولية، فقد بات يُنظر إلى حقوق الإنجاب مع الوقت كمشكلة. فبعد إنهاء سياسة إنجاب الطفل أو الطفلة الواحدة في عام 2015، ما سمح للأزواج بإنجاب إثنيْن، رفعت الصين الآن الحد الأقصى إلى ثلاثة أبناء، ذكورا وإناثا. أما في إيران وروسيارابط خارجي، فقد أصبح الموضوع محل انشغال وتفكير.
بالعودة إلى سويسرا، التي تتبنى نهجا ليبراليا، فقد أكدت الحكومة الفدرالية في عام 2021رابط خارجي، معارضتها لانتهاج “سياسة تحفيزية مباشرة للنمو الديمغرافي” باسم الحفاظ على حرية الاختيار.
الحوافز المالية لا تكفي
تتوقّف جدوى وفعالية هذه التدابير الهادفة إلى تشجيع النمو الديمغرافي على أن تكون جزءً لا يتجزّأ من سياسة شاملة حقيقية تعنى بالأسرة، ما يوفّر بيئة عامة مواتية للخلية الأولى في المجتمع، يكون عمادها المساعدات المالية، ومرافق الرعاية بالطفولة، وإجازات الأبوة والأمومة.
وتعتبر فرنسا، التي تخصص أعلى مستوى من الإنفاق الحكومي لمساعدة الأسر مقارنة ببقية البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، واحدة من أكثر البلدان السبّاقة في هذا المجال. وتتميز هذه الأخيرة بمنحها العائلية التي تزيد تدريجيا بحسب عدد أفراد العائلة، وهو ما يشيد به فيليب فانّر، الأستاذ بمعهد الدراسات الديمغرافية في جنيف.
ويُشار إلى بلدان شمال أوروبا في أغلب الأحيان كنماذج للاحتذاء، لأنها توفّر عطلات أبوة وأمومة سخية، وبنية تحتية لرعاية الطفولة منخفضة التكلفة، فضلا عن أن مشاركة الآباء في رعاية الأبناء، الذكور والإناث، ظاهرة متأصلة هناك، كما يذكر توماس سوبوتكا.
ويشير الباحث من فيينا كذلك إلى إستونيا، حيث يعتبر نظامها في مجال إجازة الأبوة المشتركة لمدة 600 يوم، واحدا من أكثر الأنظمة مرونة.
بالمقارنة مع مثل هذه السياسات، يبدو تدخّل الدولة السويسرية في مجال السياسة الأسرية محدودا. ويعتقد فيليب فانّر أن "الإعانات العائلية في بلد جبال الألب قليلة وغير فعالة"، وأن المجتمع "لا يعير اهتماما كبيرا لضمان التوافق بين الأدوار. ثم إن الأماكن في دور الحضانة النهارية غير كافية، وتُعدّ الأغلى مقارنة ببقية البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية".
أعداد محدودة من الرضع
كيف ما كان الحال، فإن تأثير السياسات الأسرية يظل هامشيا. ويقدّر الديمغرافيون والديمغرافيات أن بإمكان هذه السياسات زيادة معدلات الإنجاب بنحو 0.2 طفل وطفلة لكل امرأة. "هذه النسبة تظل مهمة، لكنها لن تغيّر الوضع بشكل جذري"، يقول توماس سوبوتكا.
ومن المفترض أن تقوم الشركات والمؤسسات الاقتصادية أيضا بدور رئيسي، عبر توفير مزيد من المرونة للآباء العاملين والأمهات العاملات للتوفيق بين حياتهم.هن المهنية والأسرية. ويمكن أن يترجم ذلك، وفقا للديمغرافيين والديمغرافيات الذين أجريت معهم ومعهن مقابلات، عبر السماح بالعمل عن بعد، واعتماد النظام السنوي للساعات، والاختيار في تحديد نسبة الدوام، أو تقاسم إجازة الوالديْن بحسب اختيارهما.
لكن لإحداث تحول جذري، سيكون من الضروري تعزيز مكانة الأولياء والطفولة في المجتمع بشكل خاص. ولا ينكر توماس سوبوتكا أن "هذا هو أصعب شيء يمكن القيام به"، لأنه لا يخص السياسات العامة فقط، ولكن يخص أيضا المواقف والأعراف الاجتماعية.
هذا يعني أن عنصر الوقت مهمّ لعكس هذا الاتجاه. ويُلاحظ الديمغرافي من فيينا أن "عصر تراجع الإنجاب" قد بدأ. ووفقا لتوقعات الأمم المتحدة، في العقود المقبلة، سوف تنخفض معدلات الولادة التي لاتزال مرتفعة هنا أو هناك، لتستقرّ عند مستوى منخفض في كل الأماكن.
ووفقا للسيناريو الذي تتوقعه الأمم المتحدة دائما، ستشهد معظم مناطق العالم انخفاضًا في توازنها الديمغرافي قريبًا – بدءًا من هذا العقد في أوروبا. وبازدياد عدد الوفيات مقارنة بالمواليد، يتوقع الخبراء والخبيرات أن يبدأ عدد سكان العالم في التراجع مع اقتراب نهاية هذا القرن.