شفق نيوز/ في مبادرة وصفت بالتاريخية، فجّر زعيم حزب "الحركة القومية" في تركيا، دولت باهتشلي، مفأجاة كبيرة داخل أوساط البلاد السياسية، ورغم أن القضية سبقتها مؤشرات و"مصافحة" تمهيدية لم يكن متوقعا أن تصل إلى حد توجيه مقترح علني لزعيم "حزب العمال الكوردستاني" المسجون، عبد الله أوجلان.
وباهتشلي القومي، هو الحليف الأبرز للرئيس التركي، رجب طيب إردوغان وتحيط بالرجل قوة ملحوظة وفاعلة منذ عقود ودائما ما يكون لتصريحاته أبعاد داخلية وخارجية، سواء على صعيد الملفات السياسية والعسكرية.
وتقوم المبادرة "الاستثنائية" التي طرحها في جلسة للبرلمان على معادلة من شقين، وتتخلص بقوله: "إذا تم رفع العزلة عن زعيم الإرهابيين (أوجلان)، فليأت ويتحدث في اجتماع الحزب الديمقراطي (المؤيد للكورد) في البرلمان، وليصرخ بأن الإرهاب انتهى تماما، وأن منظمته تم حلها".
وأردف حديثه بأنه إذا ألقى أوجلان مثل هذا الخطاب فقد يكون هناك سبيل لإطلاق سراحه من السجن بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، المعروفة باسم "الحق في الأمل"، والتي تحظر أحكام السجن لأجل غير مسمى وتحددها بـ25 عاما.
مؤسس "العمال الكوردستاني" أوجلان يقبع في سجن بجزيرة "آمرلي" الواقعة في بحر مرمرة منذ عام 1999، ويخوض حزبه منذ عقود تمردا ضد الدولة التركية منذ عام 1984. كما تصنف أنقرة الحزب الذي ينتشر عناصره وقادته في جبال قنديل ومناطق بشمال العراق وشمال سوريا كمنظمة "إرهابية".
ولم يتمكن أفراد عائلته ومحامي أوجلان من التحدث إليه أو زيارته منذ أكثر من 44 شهرا، بحسب مسؤولين كورد، لكن ووفقا لما نشرته الصحفية المقربة من إردوغان، هاندي فيرات ليلة الثلاثاء- الأربعاء على "إكس" فإنه من المتوقع أن يجري عمر أوجلان ابن أخ مؤسس "العمال الكوردستاني" زيارة له في المستقبل القريب.
وتثير المبادرة التي وجهها باهتشلي وهو الذي كان ضد أي مفاوضات أو تعاملات مع "العمال الكوردستاني" وزعيمه الكثير من التساؤلات وتعلق أبرزها بأهدافها وأبعادها في التوقيت الحالي.
وفي ذات الوقت فتحت بابا واسعا من ردود الفعل، وكان لافتا أن جزءا كبيرا منها وصل إلى حد توجيه انتقادات لاذعة للزعيم القومي، والذي طالما كرّس تصريحاته في السنوات الماضية على توجيه انتقادات حادة لأوجلان وصفا إياه بالإرهابي، وكذلك الأمر ضد السياسيين الكورد موجها اتهامات لهم بالارتباط بحزبه المحظور.
كيف بدأت القصة؟
"المبادرة" التي اقترحها الزعيم القومي حليف إردوغان كان سبقها خلال الأسابيع الماضية سلسلة من الخطوات التمهيدية، وحصل الأولى منها في بداية شهر أكتوبر عندما توجه نحو أعضاء الحزب الديمقراطي الكوردي (ديم) داخل البرلمان، وأجرى معهم محادثة قصيرة.
بعد ذلك بدأ باهتشلي بالتدريج إطلاق تصريحات تتعلق بالقضية الكوردية وعملية السلام في البلاد.
وفي مناسبتين منفصلتين قال إن تحركه "كان متعمدا" في إشارة للمصافحة، وإنه يهدف إلى البحث عن السلام في تركيا.
ولم يكن الرئيس التركي بمعزل عما يجري، وبعدما أيد خطوة المصافحة في بداية أكتوبر قائلا إن تركيا يجب أن تكون قادرة على حل "المشاكل" دون أن يلجأ شعبها إلى الإرهاب علّق على المبادرة التي اقترحها حليفه القومي داعيا إلى عدم التضحية بنافذة الفرصة التاريخية التي فتحها تحالف الشعب".
كما أيد إردوغان مقترح حليفه القومي بالقول: "نريد أن نبني تركيا بدون إرهاب معا".
ومن جانب أحزاب المعارضة فقد أعرب أوزغور أوزيل، رئيس حزب "الشعب الجمهوري" عن تحفظاته بشأن تعليقات باهتشلي، لكنه قال إن البرلمان يجب أن يكون المكان الرئيسي لحل ما يسمى بالقضية الكوردية ويجب مناقشة كل شيء بشفافية.
وأضاف أوزيل أنه "لا يمكن حل هذه المشكلة بحل مناسب لشخص واحد دون حل مشاكل الكورد وفقا للدستور.. نحن نعلق أهمية على كل خطوة يجب اتخاذها لتحقيق المصالحة بين 86 مليون شخص".
وبدورها قالت تولاي حاتم أوغولاري الرئيس المشاركة لحزب "ديم" الكردي في تعليقها على ما اقترحه باهتشلي إن "حل المشكلة الكوردية واضح إن محاور السلام في الشرق الأوسط وتركيا هو عبد الله أوجلان الذي يعيش عزلة شديدة في آمرلي".
وأوضحت أن "الطريق إلى الحل هو مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان)"، مشيرة إلى استعداهم لأخذ زمام المبادرة "وكبداية يجب رفع العزلة عن أوجلان"، بحسب قولها.
المسؤولة الكوردية، شددت أيضا على ضرورة "رفع العزلة الجسدية عن أوجلان"، وتابعت حديثها: "بعد اليوم، نعد بالقيام بدورنا من أجل السلام المشرف، بغض النظر عن الثمن الذي يجب دفعه".
ماذا وراء مبادرة باهتشلي؟
ويعتقد الباحث في الشأن التركي، محمود علوش أن انفتاح التحالف الحاكم على الحزب الكوردي "هو جزء من ديناميكيات التليين الداخلي التي ظهرت بعد الانتخابات المحلية".
كما يقول إن "تراجع الرهان على التعاون بين حزبي العدالة والتنمية والشعب الجمهوري شكل دافعا قويا لانفتاح التحالف الحاكم على الحزب الكوردي"، وهناك دوافع متعددة للخطاب الجديد لإردوغان وحليفه القومي تجاه الحالة الكوردية.
ويوضح علوش أن "حاجة أردوغان إلى تعديل الدستور تتطلب فتح مسارات حوار مع أحزاب المعارضة"، كما أن أردوغان يرغب بأن يحافظ على إرثه كزعيم تركي استطاع نقل العلاقة مع الحالة الكوردية إلى مستوى مُختلف.
ويرى الباحث أن مثل هذه المبادرات تُساعد في تخفيف حدة الاستقطاب بين الحالة السياسة الكوردية والدولة"، لكنه يؤكد في المقابل إلى أنه "ينبغي وضع رهانات واقعية على آفاق هذه المبادرات".
ومن الواضح جدا أن هناك قلقاً في تركيا من تثبيت "كيان كوردي في شمال وشرق سوريا"، بحسب حديث الباحث السياسي التركي، هشام جوناي.
وتخشى الدولة التركية بأن يكون للكيان المذكور امتدادات في البلاد.
وعلى هذا الأساس يقول جوناي، إن الهواجس السابقة "ربما تدفع الأحزاب الحكومة لكي تفتح أبواب الحوار مجددا مع أحزاب المعارضة الكردية".
ويعتبر الباحث أن القضية ليست من طرف واحد، بل من اثنين، موضحا أن "الأمر لا يتعلق بالحكومة التركية بشأن مسألة الانفتاح بل يجب أن يكون هناك مبادرة من الحزب الكوردي في تركيا".
ما المتوقع؟
وقبل أسبوع نقل الصحفي المقيم في أنقرة، راغب صويلو عن مصدر تركي مطلع على تفكير الحكومة إن أنقرة كانت تجري مناقشات داخلية حول ما ينبغي القيام به بشأن حزب "العمال الكوردستاني" وما يسمى بالقضية الكوردية على مدى العامين الماضيين.
وكان من المقرر منذ أشهر التوصل إلى نهج جديد في التعامل مع أوجلان وحزبه.
ويتناسب الإطار الزمني الممتد لعامين أيضا مع تطورين رئيسيين: الانتخابات الرئاسية لعام 2023 والانتخابات المحلية في مارس 2024.
في كل من هذه المناسبات، كان إردوغان في حاجة إلى أصوات الكورد، وكان من المنطقي أن تبتكر حكومته استراتيجية للتعامل مع الكورد، وفقا لصويلو.
وتابع الصحفي أيضا، لكن من جانب آخر: "كان من المنطقي أيضا أن تعمل الحكومة التركية على حل هذه المشكلة خلال العامين الماضيين لأسباب خارجية".
وفي حين تفكر الولايات المتحدة في سحب قواتها من سوريا تريد أنقرة أن تحل بشكل استباقي أي دولة كوردية تنشأ بالقرب من حدودها، خاصة إذا فاز دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية.
ولتحقيق ذلك عليها "معالجة مظالم الديمقراطيين وبالتالي تحييد حزب العمال الكوردستاني استراتيجيا، على الأقل في الوقت الراهن".
ونقل الصحفي عن مصدر مطلع على القضية أن "أنقرة لا تريد منطقة كوردية مستقلة يمكن أن تكون جذابة للغاية للكورد الذين يعيشون في تركيا، وبالتالي فهي تريد أن تجعل تركيا أكثر جاذبية".
وأجرت تركيا محادثات سلام مع أوجلان و"العمال الكوردستاني" منذ عام 2012 لكن هذه العملية وجهود التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار انهارت في يوليو 2015، وهو ما أشعل فتيل أكثر حقبة دموية في الصراع، بحسب "فرانس برس".
ومنذ عام 2015، اعتقلت الدولة التركية آلاف السياسيين والناشطين الكورد، وأطاحت بالعشرات من رؤساء البلديات المنتخبين، كما تمكنت من دفع "العمال الكوردستاني" إلى خارج حدود البلاد من خلال عمليات عسكرية واسعة النطاق داخل تركيا وخارجها، بما في ذلك في العراق وسوريا.
ويعتقد الباحث علوش أن أي مسار لإعادة إحياء عملية السلام بين الدولة و"العمال الكوردستاني" يتطلب توفر المزيد من العوامل التي لا تبدو متوفرة حتى الآن، كما أن هذه العوامل متشابكة ولا تقتصر على الحالة الكردية الداخلية.
ويعتبر الباحث أن "هناك فرصة كبيرة أمام الحزب الكوردي لتلقف هذا التحول في خطاب الحزب الحاكم بدلا من الرهان على سياسة العداء مع الدولة، والتي لم تؤدٍ سوى إلى تعميق مأزق الحالة السياسة الكردية في تركيا".
"متغيرات إقليمية وداخلية"
ومن جانبه يعتقد الباحث السياسي التركي جوناي أن ما تشهده الساحة الداخلية الآن مرتبط بمتغيرات إقليمية وداخلية في آن معا.
فيما يتعلق بالحزب الكوردي يبدو أنه منفتحا على الحوار مع الحكومة، لكنه ما يزال يؤكد أن المسار يجب ان يكون تحت مظلة البرلمان، بإشراف بقية الأحزاب.
ويقول الباحث: "سنرى إن كانت النية جادة من التحالف الحاكم في موضوع الانفتاح".
ويضيف أيضا أنهم "يجب أن يراجعوا الدستور مرة أخرى وأن يقدموا برهانا قويا بأنهم جادين في موضوع الانفتاح وإلا ستبوء المبادرة بالفشل مرة أخرى".
"الثقة شبه معدومة بين الأحزاب الكوردية والحكومة لأسباب عديدة، وأبرزها أن آخر انفتاح كان فشل بسبب سياسات حزب الحركة القومية وتحالفه مع الحزب الحاكم"، وفق جوناي.
وبينما يشير إلى أن "المتغيرات" الحاصلة في الإقليم هي من تقف وراء فتح أبواب الحوار من قبل التحالف الحاكم يرى أن "الحكومة تريد أن ترسخ حكمها".
وفي غضون ذلك "يريد إردوغان أن يرشح نفسه لدورة رابعة، ومن باب الحفاظ على ذلك لدورة جديدة يحتاج لأن يرسخ العلاقات مع الكورد".
المصدر: الحرة