شفق نيوز– كركوك
في معمل السجاد وسط مدينة كركوك، تتقاطع أنامل النساء مع خيوط الصوف والحرير لتروي قصة طويلة من الإرث والجمال، وتنسج معها أملاً جديداً لمئات النساء اللاتي وجدن في الحياكة طريقاً للإبداع والتمكين.
هناك، اختُتم البرنامج الوطني "نساء حائكات يجسدن تأريخ العراق" الذي احتضنته مؤسسة خاتون الثقافية برئاسة يوكسل عبدالله، وبرعاية رئاسة مجلس الوزراء وبالتعاون مع المجلس الأعلى للشباب ودائرة المنظمات غير الحكومية، بعد ستة أشهر من العمل والتدريب المستمر.
البرنامج الذي نُفذ في معمل سجاد كركوك لم يكن مجرّد مشروع تدريبي، بل تحول إلى مساحة فنية وثقافية تعبّر فيها النساء عن الهوية العراقية المتجذّرة في الحرف التقليدية، وتعيد الاعتبار لصناعة السجاد اليدوي الذي يُعد من أقدم رموز الحِرف الوطنية في البلاد.
حياة وفرص عمل
وتقول يوكسل عبدالله، رئيسة مؤسسة خاتون الثقافية، لوكالة شفق نيوز، إن "البرنامج جاء من إيمان المؤسسة بضرورة تمكين النساء عبر مشاريع مستدامة تحيي التراث العراقي وتوفّر فرصاً حقيقية للعمل”.
وتضيف عبدالله: "خلال ستة أشهر، استطعنا تدريب عشرات النساء على فنون النسج اليدوي والتعامل مع الخيوط الطبيعية من الصوف والحرير، وصناعة سجاد يمثل روح العراق، يجسد بيئته وتنوعه وألوانه، ليحمل كل بساط حكاية من شمال الوطن إلى جنوبه".
وبحسب حديثها فإن المشروع لم يقتصر على التدريب المهني فحسب، بل تضمن أيضاً ورشاً فكرية وثقافية لتعزيز وعي النساء بدورهن في الحفاظ على الهوية الوطنية، إلى جانب دورات في التسويق وإدارة المشاريع الصغيرة لتمكين المشاركات من تحويل مهاراتهن إلى مصدر دخل ثابت.
"في أروقة المعمل، تصطف الأنوال الخشبية القديمة كأنها شواهد على تاريخ طويل من الصبر والدقة، وبصوتٍ تغلب عليه الحماسة"، هكذا تصف نجلاء صبري، مديرة معمل سجاد كركوك، حال المنظر عندها.
وفي حديث لوكالة شفق نيوز، تشير إلى أن "هذه المبادرة من أهم المشاريع التي نفذت خلال السنوات الأخيرة، لأنها جمعت بين الحرفة والتراث والتمكين الاقتصادي"، مستطردة بالقول: "لقد رأينا نساءً يدخلن المعمل للمرة الأولى وهن لا يعرفن كيف يُمسكن بخيط، وها هن اليوم يقدمن قطعاً فنية مبهرة يمكن تصديرها إلى الأسواق".
ووفقاً لصبري، فإن المعمل أصبح منارة نسوية حقيقية، فالمشاركات لم يتعلمن الحياكة فقط، بل اكتسبن ثقة بالنفس وشعوراً بالانتماء إلى مهنة أصيلة تعبّر عن جذرٍ عراقيٍّ عميق"، مبينة أنهم لا يصنعون السجاد فحسب، بل ينسجون العديد من قصص النساء اللواتي تحدّين الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وكتبن بخيوطهن لوحة العراق الجميل المتعدد الألوان.
مزيج بين التأريخ والثقافة
في زاوية أخرى من المعمل، كانت أنسام محمد، إحدى خريجات البرنامج، تراقب بساطاً أنهت العمل عليه للتو، حيث قالت لوكالة شفق نيوز: "نحن ننسج الحرير وخيوط الصوف ونحوّلها إلى سجاد عالي الجودة، تعلمنا كيف نمزج الألوان ونختار النقوش التي تعبّر عن ثقافة مدينتنا وتاريخها".
وتضيف محمد، وهي أم لثلاثة أطفال، أن "البرنامج فتح باب الأمل للكثير من النساء"، موضحةً أن "بعض المشاركات بدأن فعلاً بإطلاق مشاريع منزلية صغيرة لبيع منتجاتهن في الأسواق المحلية، وهذا يعني أن المشروع لم يتوقف بانتهاء التدريب، بل بدأ منه طريق جديد من الاستقلال والعمل".
كم توضح أن الهدف الأساسي من البرنامج هو دمج النساء في سوق العمل وإحياء الحرف التقليدية، مشيرة إلى أن تجربة كركوك ستكون نموذجاً يمكن تعميمه في محافظات أخرى.
وتشير إلى أن "المرأة العراقية تمتلك طاقات هائلة، ومتى ما حصلت على الدعم الكافي، فإنها قادرة على إحداث فرق حقيقي في المجتمع، سواء في مجال الحرف اليدوية أو المشاريع الثقافية والإنتاجية"، موضحة أن "مشروع نساء حائكات يأتي ضمن الخطة الوطنية لتمكين المرأة التي تبنتها الحكومة العراقية، وتهدف إلى تعزيز مشاركة النساء في مجالات الاقتصاد الإبداعي، ودعم الصناعات التراثية التي تواجه خطر الاندثار بسبب غزو المنتجات المستوردة الرخيصة".
وفي قاعة خُصصت لعرض نتاجات المشاركات، تزيّنت الجدران بعشرات القطع الفنية التي تحكي قصص مدن العراق، نقوش لبوابات بابل، وزخارف من جبال كوردستان، وألوان من أهوار الجنوب، كل قطعة كانت تروي جزءاً من تاريخ الوطن بلغة الخيوط، وتؤكد أن السجاد العراقي ليس مجرد مفروشات، بل ذاكرة وطنٍ تُنسج بالخيوط والأيادي النسوية.
ويقول أحد المشرفين على المشروع صالح احمد، لوكالة شفق نيوز، إن العمل على كل قطعة يستغرق أسابيع طويلة من التركيز والصبر، فالنسج اليدوي ليس مجرد مهنة، بل طقس فني وروحي، تحتاج فيه المرأة إلى توازن بين القوة والنعومة، بين الخيال والالتزام بالتفاصيل.
ويرى أن السجاد العراقي يتميّز عن غيره من حيث تنوع النقوش والرموز المستمدة من حضارات بلاد الرافدين القديمة، وهو ما يجعل كل عمل فني يحمل بصمة تاريخية فريدة.
واختُتم الحفل الختامي للبرنامج وسط أجواء احتفالية، حيث عرضت المشاركات منتجاتهن أمام ممثلي الحكومة المحلية والمنظمات الداعمة، وجرى توزيع شهادات تقديرية على النساء المتميزات تقديرًا لجهودهن.
في حين، أكدت رئيسة مؤسسة خاتون الثقافية، بوكسل عبدالله، أن المؤسسة ستواصل دعم النساء من خلال مشاريع جديدة تهدف إلى توسيع نطاق التدريب وإنشاء منفذ تسويقي دائم لمنتجات السجاد اليدوي في كركوك.
وتابعت قائلة: "نحن نؤمن أن المرأة العراقية حين تُمنح الفرصة، فإنها قادرة على أن تحوّل الخيوط البسيطة إلى لوحات من الإبداع، تمامًا كما تحوّل الألم إلى أمل".