شفق نيوز- بغداد

منذ أول انتخابات برلمانية بعد العام 2003، تحوّلت قضية "الكتلة الأكبر" إلى العنوان الأبرز في كل دورة انتخابية عراقية، وإلى شرارة الخلاف الأولى التي تشعل صراعات التفاهمات والتحالفات قبل أن تتضح ملامح النتائج النهائية للحكومات الجديدة.

فبين النص الدستوري الغامض والتأويلات المتناقضة، ظلّ هذا المفهوم سلاحاً سياسياً في يد الكتل الكبرى، تستخدمه لترجيح كفتها في سباق الوصول إلى المنصب التنفيذي الأعلى في البلاد، وهو "رئاسة الحكومة".

ومع اقتراب موعد الانتخابات المقبلة، تتجدّد المعركة القديمة داخل أروقة القوى السياسية، وخصوصاً الإطار التنسيقي الذي يواجه انقسامات حادة بين أجنحته حول هوية مرشحه لرئاسة الوزراء، وكيفية ضمان امتلاكه "الكتلة الأكبر" التي تخوّله دستورياً تشكيل الحكومة.

ورغم الاجتماعات المتكرّرة لقادة الإطار ومحاولات التهدئة بين أطرافه، فإن مؤشرات الانقسام ما تزال واضحة، ما ينبئ بمعركة سياسية مبكرة قد تعيد سيناريوهات التعطيل والتجاذب التي رافقت تشكيل الحكومات السابقة.

وتكمن خطورة هذا الملف، وفقاً للمراقبين، في أنه لا يقتصر على خلاف سياسي داخلي، بل يمتدّ إلى جوهر التوازنات البرلمانية والتحالفات العابرة للطوائف والمكونات، حيث تسعى كل جهة إلى تثبيت موقعها وتأمين نفوذها داخل السلطة التنفيذية، فبينما يرى البعض أن "الكتلة الأكبر" يجب أن تُحدّد بعد إعلان النتائج رسمياً من خلال التحالفات البرلمانية، يتمسك آخرون بأنها الكتلة التي تتقدّم بالأصوات في الانتخابات نفسها، لتبدأ بعدها معركة الأرقام والمواقف والولاءات.

صراع مبكر

تحديات "الكتلة الأكبر" دفعت فريق وكالة شفق نيوز نحو الدخول في كواليس الصراع داخل الإطار، حيث يكشف مصدر رفيع في الإطار التنسيقي عن تصاعد الخلافات الداخلية بين قواه بشأن تشكيل الحكومة المقبلة وتسمية رئيس الوزراء الجديد، مؤكداً أن الاجتماعات الدورية التي عقدها قادة الإطار خلال الأسابيع الماضية لم تسفر عن أي اتفاق نهائي بشأن هذا الملف الحساس.

وفي حديث لوكالة شفق نيوز، يشير المصدر إلى أن "الإطار التنسيقي يسعى إلى حسم تسمية الحكومة المقبلة بشكل منفرد وبسهولة أكبر مقارنة بالانتخابات السابقة، لا سيما بعد انسحاب التيار الصدري من السباق الانتخابي وعدم مشاركته بمرشحين، وهو ما يراه بعض قادة الإطار فرصة لتفادي التعقيدات السياسية السابقة".

وكان الصدر قد أعلن في آذار/مارس 2025، عن عدم مشاركته في الانتخابات المقبلة، معللاً ذلك بوجود "الفساد والفاسدين"، فيما بيّن أن العراق "يعيش أنفاسه الأخيرة".

وقرر الصدر في حزيران/يونيو 2022 الانسحاب من العملية السياسية في العراق، وعدم المشاركة في أي انتخابات مقبلة حتى لا يشترك مع الساسة "الفاسدين"، بعد دعوته لاستقالة جميع نوابه في البرلمان والبالغ عددهم 73 نائباً.

مناقشات غير مثمرة

مناقشات الإطار تضمنت طرح خيار الثلث الضامن وإمكانية التحالف مع أطراف كوردية لتمرير اسم المرشح لرئاسة الحكومة، إلا أن هذا المقترح لم يحظَ بتوافق نهائي بسبب الانقسامات الواضحة داخل مكونات الإطار نفسه، وفقاً لنفس المصدر.

الانقسام يتركز بين ثلاثة أجنحة رئيسية، وهي جناح رئيس مجلس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، وجناح زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، والجناح المدعوم من عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، والكلام للمعلومات التي سربها المصدر، والذي أكد أن "هذه الخلافات ولّدت توتراً ملحوظاً داخل الإطار، في ظل مخاوف من أن تسعى بعض هذه الأطراف، التي يُتوقّع أن تحصد عدداً كبيراً من المقاعد، إلى عقد تحالفات مع قوى سنية وكوردية كبرى لتشكيل الحكومة المقبلة بمعزل عن بقية مكونات الإطار".

ولم يتوصل الإطار حتى الآن إلى اتفاق نهائي بشأن الكتلة الأكبر، فيما رجّح المصدر أن يتم تأجيل الحسم إلى ما بعد الانتخابات حتى تتضح موازين القوى الفعلية لكل طرف من خلال عدد المقاعد التي سيحصل عليها في البرلمان الجديد.

ومنح الدستور العراقي لعام 2005 حقَّ تشكيل الحكومة إلى الكتلة النيابية الأكثر عدداً، إذ تنص الفقرة (أولاً) من المادة (76) على أن "رئيس الجمهورية يكلّف مرشّح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال 15 يوماً من تاريخ انتخابه".

ورغم وضوح النص الدستوري، ما يزال الجدل قائماً حول تفسير المقصود بـ"الكتلة النيابية الأكثر عدداً"، فبينما يرى فريق أنها الكتلة الفائزة بأعلى عدد من المقاعد في الانتخابات، يؤكد آخرون أن المقصود هو التحالف الذي يتشكل داخل البرلمان بعد إعلان النتائج، من حزبين أو أكثر، لتكوين الأغلبية البرلمانية القادرة على تشكيل الحكومة.

وفي (25 آذار/مارس 2010)، فسّرت المحكمة الاتحادية العليا مفهوم الكتلة النيابية الأكثر عدداً بأحد احتمالين، الأول أن تكون الكتلة قد تشكلت قبل الانتخابات من خلال قائمة انتخابية واحدة دخلت المنافسة باسم ورقم محددين، وحصلت على العدد الأكبر من المقاعد.

بينما التفسير الثاني، بحسب الاتحادية، أن تتكوّن الكتلة بعد الانتخابات من اتحاد قائمتين أو أكثر من القوائم الانتخابية التي خاضت الانتخابات بشكل منفصل، ثم توحّدت في مجلس النواب ضمن كيان واحد.

كما أكدت المحكمة في وقتها أن رئيس الجمهورية يكلّف مرشّح الكتلة التي أصبحت الأكثر عدداً في الجلسة الأولى لمجلس النواب بتشكيل مجلس الوزراء، استناداً إلى أحكام المادة (76) من الدستور العراقي.

وأدّى التفسير الدستوري من قبل المحكمة الاتحادية إلى سحب الأحقية في تشكيل الحكومة من رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، زعيم القائمة العراقية، التي فازت في انتخابات عام 2010 بـ91 مقعداً، وهو العدد الأعلى آنذاك.

إلا أن التفسير منح نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق، أحقية تشكيل الحكومة رغم حصول ائتلافه دولة القانون على 89 مقعداً فقط، بعد أن نجح في تشكيل تحالفٍ برلمانيٍّ أوسع مع قوى سياسية متعددة، ما جعله الكتلة النيابية الأكثر عدداً.

تحدي "الكتلة الأكبر"

في غضون ذلك، يؤكد القيادي في ائتلاف دولة القانون، حيدر اللامي، أن قضية الكتلة الأكبر ستشكّل التحدي الأهم بعد الانتخابات البرلمانية المقبلة، مشيراً إلى أن هذا الملف سيكون محور الصراع السياسي بين القوى الفائزة لتحديد الجهة التي ستتولى تشكيل الحكومة الجديدة.

وبحسب حديث اللامي لوكالة شفق نيوز، فإن الكتلة الأكبر ستبقى العقدة الأبرز في مرحلة ما بعد الانتخابات، إذ ستشهد الساحة السياسية جدلاً واسعاً حول الجهة التي ستتمكن من تحقيق هذا اللقب الدستوري، مضيفاً أن المعطيات الحالية تشير إلى أن الإطار التنسيقي سيكون الطرف الأوفر حظاً في حسم هذا الملف، نظراً لما يملكه من قوى وكتل كبيرة مؤثرة على الساحة السياسية.

ويوضح القيادي الشيعي أن "التنافس داخل القوى السياسية مستمر، لكن هناك شبه اتفاق داخل الإطار على ضرورة التعامل بواقعية مع هذا الملف الحساس وحسمه بطريقة تضمن استقرار العملية السياسية وتشكيل الحكومة ضمن الأطر الدستورية".

وفي ما يتعلق بملف الثلث الضامن، يشير اللامي إلى أن "هذا الخيار ما زال مطروحاً كأحد الحلول في حال تصاعد الخلافات حول تشكيل الحكومة أو توزيع المناصب، لكنه لم يُعتمد رسمياً حتى الآن"، لافتاً إلى أن "اللجوء إلى هذا الخيار سيكون مرتبطاً بمدى التوافق أو الانقسام الذي قد تشهده الساحة بعد إعلان نتائج الانتخابات".

ويتابع القيادي حديثه بالقول إن "الانتخابات المقبلة ستكون من أكثر الاستحقاقات استثنائيةً منذ عام 2003، نظراً لحجم التنافس وحدّة الاستقطاب السياسي بين القوى المختلفة"، متوقعاً أن "تسفر النتائج عن تكتلات وتحالفات غير متوقعة قد تُغيّر ملامح المشهد السياسي العراقي في المرحلة المقبلة".

لكن في انتخابات 2021، أقدم النائبان عن ائتلاف دولة القانون عالية نصيف وعطوان العطواني، في وقتها، على رفع دعوى لدى المحكمة الاتحادية العليا بشأن الكتلة النيابية الأكبر، بعد الجدل الذي أثير خلال الجلسة الأولى لمجلس النواب بتاريخ 9 كانون الثاني/يناير 2022، مؤكدين أن الكتلة الأكبر هي للإطار التنسيقي.

وبعد شهر تقريباً، ردت المحكمة الاتحادية العليا الدعوى الخاصة بالمطالبة بإعلان الكتلة النيابية الأكثر عدداً في مجلس النواب، بعد تأجيل الحسم في الدعوى مرتين، لتثبت كتلة "التيار الصدري" على أنها الكتلة الأكبر داخل البرلمان الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد خلال الانتخابات.

عودة "الثلث الضامن"

إلى ذلك، يقول عقيل الرديني، عضو ائتلاف النصر المنضوي تحت الإطار التنسيقي، في حديث لوكالة شفق نيوز، إن "الإطار سيبقى العنصر الأهم في المعادلة السياسية العراقية خلال المرحلة المقبلة من تشكيل الحكومة الجديدة"، مبيناً أن "الإطار سيبقى الضامن الرئيس لاستقرار المشهد السياسي والانتخابي على حد سواء، وسيكون هو (الثلث الضامن)".

ويشير مصطلح "الثلث الضامن" أو "الثلث المعطل" في السياسة العراقية إلى تحالف داخل البرلمان يمتلك أكثر من ثلث عدد مقاعد مجلس النواب (أي أكثر من 110 مقاعد من أصل 329)، ويُستخدم هذا الثلث كأداة لعرقلة أو ضمان تمرير قرارات أساسية، خصوصاً في ما يتعلق بانتخاب رئيس الجمهورية أو منح الثقة للحكومة الجديدة.

ووفقاً لحديث عضو ائتلاف النصر، فإن هناك بعض المؤشرات على خروج رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني من الإطار التنسيقي، مؤكداً أنه حتى في حال حصول تحالفات خارج الإطار، من الصعب جداً أن يتمكّن أي طرف من تشكيل حكومة من دون التنسيق معه أو الحصول على دعمه.

وفي ما يتعلّق بالتسريبات التي تحدّثت عن تحالف ثلاثي محتمل يضم السوداني وقوى كوردية وسنية، يوضح الرديني أن "هذه المعلومات غير مؤكدة حتى اللحظة، ولا توجد دلائل حقيقية على قيام مثل هذا التحالف"، مشيراً إلى أن "الإطار سيظلّ يشكّل الثقل السياسي الضامن في المشهد العراقي، مهما تعددت التحالفات أو تغيّرت الاصطفافات بعد الانتخابات المقبلة".

بينما يقول عضو حزب تقدم أحمد الجبوري، في حديث لوكالة شفق نيوز، إن موضوع الكتلة الأكبر سيظل تحدياً سياسياً بعد الانتخابات، مؤكداً أن تشكيل الكتلة يعتمد على التحالفات التي تتشكل بعد إعلان النتائج، وليس بالضرورة امتداداً لتحالفات ما قبل الانتخابات.

وبحسب الجبوري، فإن الحديث عن وجود اتفاق مسبق مع الإطار التنسيقي لحسم هذا الملف قبل الانتخابات غير دقيق، موضحاً أن أي تفاهمات بشأن الكتلة الأكبر ستتضح بعد إعلان النتائج النهائية وتشكيل التحالفات الجديدة بين القوى السياسية.

كما يرى أن الانتخابات المقبلة قد تشهد تغييرات في توزيع المقاعد والتحالفات، ما يجعل الكتلة الأكبر موضوعاً مفتوحاً للنقاش والتفاوض بين الأطراف السياسية، معتبراً أن الحوارات السياسية بعد الانتخابات هي الفيصل في تحديد شكل الحكومة القادمة وترتيب التحالفات البرلمانية.

وتُجرى الانتخابات التشريعية في العراق يوم 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، حيث يحق لنحو 30 مليون عراقي من أصل 46 مليون نسمة الإدلاء بأصواتهم لاختيار ممثليهم في مجلس النواب الجديد، غير أن نحو سبعة ملايين منهم سيُحرمون من المشاركة بسبب عدم امتلاكهم بطاقات انتخابية نتيجة عدم تحديث بياناتهم.