شفق نيوز/ لم يعد لدى السبعيني كاظم، شيئاً ليفعله لتفادي الضربة الاقتصادية القاصمة التي أطاحت بجواميسه، سوى أن يفرك براحتيّ يديه تحسراً على ما آل إليه الحال خلال أشهر معدودة جراء الجفاف الذي فتّك بالثروة الزراعية والحيوانية والسمكية والتنوع الإحيائي جنوبي العراق.
والعراق خامس أشد البلدان تضرراً من التغير المناخي بحسب الأمم المتحدة، كما أنه شهد منذ العام 2020 أزمة مياه خطيرة تصاعدية جراء شح الأمطار و"حرب المياه" التي شنتها عليه دول المنبع (تركيا، وإيران، وسوريا) لتبلغ الأزمة ذروتها خلال العام الحالي حيث انخفضت مناسيب نهريّ دجلة والفرات إلى مستويات غير مسبوقة، لدرجة أن قاع النهرين جف تماماً في بعض المناطق التي يمران بها، وفي مناطق أخرى انخفض إلى حد لم يعد بإمكان محطات مياه الشرب سحب الماء لكدورته، وأيضاً لتدنيه إلى أقل من نصف متر، إلى جانب انخفاض كبير في السدود والبحيرات والخزانات المائية، وتحول الأهوار الجنوبية إلى أراضٍ جافة.
إبادة يومية
في قضاء الجبايش جنوبي محافظة ذي قار، والذي يعد "فينيسيا العراق" لاتساع مساحة الأهوار فيه، وتنقل ساكنيه باستخدام الزوارق الخشبية (المشحوب)، يسكن كاظم الذي بلغ العقد السابع من العمر، ولا يخفي حسرته وهو يتحدث لوكالة شفق نيوز، ويقول "الثروة الحيوانية التي تعتاش منها عائلتي تتعرض يومياً للإبادة بسبب شح المياه. خسرنا لغاية الآن 16 جاموسة".
ويضيف "الظروف العامة المحيطة بنا باتت تزداد سوءً يوماً بعد آخر، حيث لا ماء في الأهوار ولا المساعدات الحكومية تصلنا في الوقت المناسب، ما أجبرنا الاستعانة بالسيارات الحوضية لتأمين الماء لجواميسنا التي نجت من الموت حتى الآن".
ويوضح "علف الجواميس بعد توسع رقعة الجفاف أصبح مكلفاً إذ يزيد على 25 ألف دينار عراقي يومياً لتأمين الغذاء، وهو في تصاعد مستمر كلما اشتدت أزمة الجفاف".
خسائر بمليارات الدنانير
الحكومة المحلية لقضاء الجبايش، كشفت في تقرير رسمي، أرسلته إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء، وحصلت وكالة شفق نيوز على نسخة خاصة منه، عن حجم الخسائر الاقتصادية التي تكبدها مربوّ الجواميس في المحافظة.
وبحسب التقرير فإن عدد الجواميس والأبقار التي نفقت خلال العام الماضي بلغ 7509 جاموسة وبقرة، بسبب الانخفاض الشديد لمناسيب مياه الأهوار ما أدى إلى أن تعلق الحيوانات في الطين بمجرد دخولها الهور، وبالتالي يصعب الوصول إليها لإنقاذها.
ويوضح مختصون بأسعار الماشية، لوكالة شفق نيوز، بعد اطلاعهم على التقرير الحكومي، أن الخسائر المالية التي تكبدها سكان الأهوار نتيجة نفوق هذه الأعداد من الماشية يتجاوز 17 مليار دينار عراقي (أكثر من 11.333 مليون دولار).
ويرى المختصون أنه "رقم مرعب، اذ يصعب تعويضه في القريب العاجل وربما يحتاج لسنوات، لتلافي آثاره، من خلال إعادة الثروة الحيوانية لطبيعتها".
الهجرة القاسية
تقول منظمة "الجبايش" للسياحة والبيئة في الأهوار، إن "الأهوار لم تعد صالحة للعيش البشري، بسبب ما أصابها نتيجة الجفاف الذي ضربها، وارتفاع نسب الملوحة في المياه بسبب قلة الإطلاقات المائية".
ويضيف رئيس المنظمة، رعد الأسدي، لوكالة شفق نيوز، أن "الفترة الأخيرة شهدت تعرض مناطق الأهوار إلى نكبة اقتصادية حقيقية، حيث أن هذه المناطق تعتمد في معيشتها على تربية الجاموس وصيد الأسماك، وكل هذه المصادر تعتمد في وجودها على الماء، وبعد الجفاف الذي أصابها أصبحت هذه المصادر مهددة بالاختفاء من الأهوار".
ويؤكد أن "الجفاف أجبر 80% من سكان الأهوار على مغادرتها إلى مناطق بعيدة".
ويوضح الأسدي "نفوق الأسماك والماشية وأبرزها حيوان الجاموس، يجعل التنوع الإحيائي مهدد بالإنقراض، وهذه تعتبر أكبر كارثة بيئية تصيب العراق ربما في السنين الأخيرة".
ويبين "حيوان الجاموس يعتبر العصب الاقتصادي الأساسي في الأهوار، وتعرضه للإهمال والإبادة بهذه الطريقة، يمثل كارثة حقيقية في البلد تعرض ثروته الحيوانية للهلاك العام".
الأزمة متكررة وهذه هي الحلول
يقول بديع لبنان الخيون، وهو مسؤول محلي سابق في قضاء الجبايش، ويشغل حالياً عضوية لجنة متابعة ملف الأهوار، إن "أزمة الجفاف تتكرر بين الحين والآخر، والحلول مطروحة أمام أنظار الجهات الحكومية العليا، وأبرزها تشكيل مجلس أعلى للمياه في البلاد يديره أصحاب الاختصاص بعيداً عن المحاصصة والمسميات الحزبية".
ويلفت في حديثه لوكالة شفق نيوز، إلى أن "هذا المجلس يتولى التفاوض مع تركيا لضمان حصة العراق المائية، كون العراق مشكلته الأساسية الآن في المياه مشكلة خارجية وليست داخلية، حيث أن جارة العراق الشمالية تعطي العراق أقل من 10% من حصته المقررة".
ويضيف الخيون "ولعل أبرز مثال على عدم منح تركيا حصة العراق الحقيقية من المياه، هو اتفاق عام 1987 الذي ينص على إطلاق تركيا مياه للسد تقدر بـ290م3 مكعب في الثانية، أما الآن فتطلق 137م3 في الثانية، بينما يطلق سد حديثة 190م3 في الثانية للمناطق التي يغذيها مائياً وبالتالي هو يستنزف خزينه المائي يوماً بعد آخر، وهذه كارثة كبيرة".
ويشدد الخيون على أن "العراق يمرّ اليوم بأزمة مائية ربما هي الأخطر في تاريخه، كونه بات يستخدم خزينه الإستراتيجي"، مؤكداً أن "هناك مشكلة داخلية أيضاً في توزيع المياه، حيث أن العراق من المفترض أن يلجأ إلى اعتماد خطة (سويرلي) التي تضع ثلاثة سيناريوهات لإدارة ملف المياه، تمثل السنة الرطبة، والسنة الجافة، والسنة شديدة الجفاف".
ويوضح "هذه الدراسة وضعت جداول بالأرقام لكل قطاع من قطاعات الحياة التي تحتاج المياه من الزراعة والصناعة والاستخدام اليومي والأهوار، فمثلاً في السنة الرطبة تحدد أرقام المياه التي تعطى للقطاعات التي بحاجة للمياه وحسب حاجتها وكذلك في السنة الجافة وهكذا".
ويتابع الخيون "الآن لا يُعمل بهذه الخطة، فالقوي يأخذ من الضعيف، ومن تمر به المياه يأخذ حصته وأكثر ولا علاقة له بالآخرين الذي يقعون في ذنائب الأنهار، مما يؤدي لعدم ترشيد استخدام المياه، وبالتالي عدم اعتماد خطة إستراتيجية واضحة للحفاظ على الأهوار وديمومتها".
ويختتم الخيون حديثه بمطالبة السلطات الاتحادية باعتماد "حلول إنشاء مجلس أعلى للمياه في البلاد، واعتماد خطة (سويرلي) لضمان وصول المياه للأهوار وإعادة الحياة البيئية لها".