شفق نيوز- بغداد
منذ واقعة كربلاء، هيمن الحزن في العراق وتوراثه الأبناء عن الاجداد جيلاً بعد جيل، اذ أورثت تلك الواقعة هموماً كبيرة تتجدد كل عام.
وللنساء بطبيعتهن العاطفية دور في إقامة مجالس العزاء التي تذكر بمأساة الطف.
تبدأ المجالس النسوية بسرد النائحة اي "الملاية" احداثاً تتعلق بالواقعة، وتنشد بصوت شجي قصائد حسينية ترددها النساء خلفها ويتفاعلن معها بالنوح والبكاء ويختتم العزاء باللطم.
كانت المجالس وفق كثيرين، تمتاز بالعفوية وتقام من أجل طلب الثواب.
تقول "الملاية" الشهيرة في مدينة الصدر سناء عباس، ان "مصابنا بالامام الحسين لا ينجبر مهما طال الزمن، وتأثرنا بفاجعة كربلاء لا ينقطع"، مؤكدة، أن "المجالس تعبير عفوي عن الألم الكبير الذي يعصر قلوبنا، وإن "مجالس العزاء النسوية لم تتوقف في اصعب الظروف".
وتلفت عباس، في حديثها لوكالة شفق نيوز، إلى أنها "منذ ان ارتقت المنبر الحسيني قبل أكثر من 30 عاماً وحتى الان لم تطلب يوماً اي اجر على قراءتها، لان المهم لديها ان يكون عملها خالصاً لله، وان ما كانت ما تحصل عليه من مال لقاء قراءة المجلس هو مجرد تكريم وليس اكثر".
وباختلاف الظروف والمتغيرات، تغيرت المجالس النسوية التي تقام في الافراح والاحزان معاً، وفي ما كانت المجالس تقتصر سابقاً على قراءة المراثي في البيوت بصوت خافت، أصبحت تقام بواسطة مكبرات صوت عالية، فيما اصبحت "الملايات" يتشترطن الاجر مقدماً.
ووفق الحاجة ام حسين اصبحت "الملايات" يشترطن الاجر مقدماً وبحسب الساعات والدقائق.
توضح ام حسين، في حديثها للوكالة، ان "مجلس العزاء الحسيني النسوي يعقد في بيتها منذ نحو ثلاثة عقود، بحضور حشد من النساء، وكانت في كل عام تخصص مبلغاً من المال تعطيه للملاية في ختام المجلس"، منبهة إلى ان "الملاية (ام طارق) كانت تقرأ لها المجلس الحسيني طوال العشرة الاولى من شهر محرم ولم تشترط مبلغا، ولم تعترض على ما تتلقاه من مبلغ مالي مقابل قراءتها مهما كان قليلا".
وتتابع: "منذ وفاة هذه الملاية استبدلتها ببعض الملايات الاخريات لكنها لم تثبت على واحدة منهن بسبب طلباتهن الكثيرة وشروطهن المالية".
وادى اختلاف الاجيال والازمان والظروف الى تغيير العديد من الموروثات الثقافية والدينية في المجتمع العراقي.
واصبحت المادة تلعب دوراً اساسياً في مجالس الحزن والفرح على حد سواء.
تشترط بعض القارئات (الملايات) مبلغاً لقاء القراءة يتراوح من 30 الى 150 الف دينار للساعة الواحدة، وهذه الأسعار تتفاوت في المحافظات عن العاصمة ولهن في هذا الصدد تبريرات شتى.
تقول القارئة الشابة (الملاية) ميثاق حسن، لوكالة شفق نيوز، إن "المجلس الحسيني رغم خصوصيته هو عمل يتطلب الجهد والوقت والمثابرة".
وتضيف: "انا مضطرة لشراءة الكتب بأسعار مرتفعة ومتابعة الاصدارات وتخصيص وقت للقراءة والحفظ، وهذا يتطلب المال والوقت".
وتواصل: "انا اترك بيتي وعائلتي لساعات طويلة في خدمة المجالس، وعلى الناس مراعاة ذلك واخذه ذلك بنظر الاعتبار"، مشيرة الى ان "مبلغ 75 الف دينار التي اتقاضها للساعة الواحدة ليس كثيراً مقابل الجهد والغلاء الحالي، وان النساء يفهمن ذلك ويقصدنها الى البيت من اجل القراءة".
ولم ينحصر اداء "الملايات" على المجالس الحسينية وحسب، فقد، اصبحت اقامة المآتم للميت ظاهرة طبيعية في العديد من مناطق بغداد والمحافظات.
تقوم النائحة (الملاية) لاكثر من ساعتين خلال هذه الماتم بسرد تاريخ بطولي للمتوفى وتسبغ عليه من السجايا التي لم يكن يحملها قط، لتحصل في النهاية على مبلغ كبير.
ويرى الاكاديمي المختص بعلم النفس والاجتماع كريم مجيد الساعدي، ان "الوجع العراقي وجع قديم وموروث منذ قرون، وان العراق نبغ بالشعر لأن الشعر يحاكي الوجدان والعواطف ويحركها اكثر من الفنون الاخرى".
ويضيف الساعدي، في حديثه للوكالة، ان "العراق سليل النوح والبكاء بفعل العوامل والاحداث القاسية التي عصفت بالمجتمع من قتل واضطهاد وتشريد خلال حقب زمنية مختلفة"، موضحاً، أن "ثمة الكثير ممن يستغلون احزان وهموم الاخرين بإثارة عواطفهم وتفجيرها من اجل ابتزازهم ماديا".
ويختتم حديثه بالقول: "هذا الابتزاز يعد من ابرز نماذج التناقض البشري في المجتمع العراقي"، مبينا ان "مراسم العزاء وطقوسها لم تعد تتمتع بالعذوبة الفطرية والاحساس الداخلي الصادق كما كانت عليه، فقد اصبحت ظاهرة للاتجار والتباهي والاستعراض وهو ما يفسد جوهرها ويجردها من الصدق والاحساس".