شفق نيوز- كركوك  

في زحمة الأجنحة والفعاليات التي يحتضنها المعرض العراقي المصري وسط محافظة كركوك، يجد الزائرون أنفسهم أمام زاوية صغيرة لا تلمع تحت الإضاءة، لكنها تجذب العيون بوهجٍ آخر. وهجُ الخشب المنحوت بحب، والأحجار المحفورة بصبر السنين. هناك يقف جاسم الهاشمي، الرجل الستيني القادم من مدينة كربلاء، الذي قطع ما يقارب 500 كيلومتر ليعرض إرثًا ظل يحمله بين يديه لأكثر من أربعة عقود.

الهاشمي، البالغ من العمر 61 عامًا، ليس مجرد حرفي، إنه قصة طويلة من الوفاء للمهنة التي يقول عنها إنها "عمر ثانٍ". يجلس خلف طاولة تتوزع عليها قطع خشبية صغيرة محفورة بأسماء وزخارف ونقوش عربية، وأخرى من الأحجار المتنوعة التي حوّلها بإزميله إلى لوحات فنية مصغّرة، تتماهى فيها التفاصيل مع ضوء المكان، وتحكي عن رحلة فنان عاش بين الخشب والنار والألوان. 

من كربلاء إلى كركوك

يقول الهاشمي، لوكالة شفق نيوز، إن مشاركته في المعرض ليست للبيع فقط، بل لإحياء الذاكرة الفنية التي يخشى أن تندثر، ولتعريف الجيل الجديد بمهنٍ كانت يومًا علامات بارزة في الثقافة العراقية، ويشير إلى أن الطريق كان طويلًا ومتعبًا، لكنه يعتبر المسافة مجرد "حاجز فيزيائي" لا يقارن بما يعيشه من شغف تجاه فنه.

ورغم عمره الذي تجاوز الستين، ما يزال يعمل بدقة الشاب وحيويته. يحمل القطعة بيده، يمرر أصابعه عليها، ثم يشرح لكل زائر نوع الخشب، وعمق الحفر، وساعات العمل، والأداة المستخدمة. وفي كل شرح ينساب شجنٌ بسيط، كأنه يستذكر ماضيًا حافلًا بالمحاولات الأولى، حين كان يتعلم الحفر على قطع خشب صغيرة وجدها في ورشة قديمة.  

الحفر على الخشب ليس مجرد نقش وزخرفة، بل هو فن يمتد بجذوره إلى حضارات وادي الرافدين، حيث كان النحاتون يحفرون على الأبواب والصناديق والأثاث ليخلّدوا الطقوس والرموز والأساطير. وفي العراق اليوم، بقي هذا الفن حاضرًا رغم مرور الزمن، ووجد لنفسه مساحة في البيوت، وفي الهدايا، وفي الفنون الشعبية التي تزيّن المعارض والمهرجانات.

ويعتمد الهاشمي على أنواع خشب مثل الجزورين، السدر، والجوز، وهي أخشاب معروفة بصلابتها وقدرتها على تحمل التفاصيل الدقيقة. يقول إن "اختيار نوع الخشب هو نصف العمل، أما النصف الثاني فهو الصبر، فكل قطعة تحتاج ساعات طويلة، وأحيانًا أيامًا كاملة، للوصول إلى الشكل النهائي".

في زاويته داخل المعرض، يقدّم الهاشمي قطعًا صغيرة تُعلّق على الصدور أو تُستخدم كميداليات للمفاتيح، وكل قطعة تحمل حرفًا أو اسمًا أو رمزًا. كما يعرض قطعًا أكبر تُستخدم كلوحات للبيوت والمكاتب، تجمع بين الفن التقليدي واللمسات الحديثة.

إلى جانب الخشب، يقدّم الهاشمي فنًا آخر قلّما يُمارس اليوم: الحفر على الأحجار. هذا الفن يحتاج مهارة مضاعفة، ليس فقط لصعوبة المادة، بل للقدرة على إخراج شكل جميل من كتلة صمّاء. يستخدم أحجارًا متنوعة، بعضها من الجبال المحيطة بكربلاء، وأخرى يجلبها معه من محافظات مختلفة.

يشرح الهاشمي أن العمل على الحجر يبدأ برسم الشكل على الورقة، ثم على سطح الحجر، وبعدها تبدأ مرحلة النحت التي يستخدم فيها أدوات حادة وازاميل صغيرة. يقول: "الحجر لا يرحم الخطأ.. ضربة واحدة غير محسوبة قد تُفسد جهد أيام". 

مواجهة التحديات

مثل كثير من المهن التراثية، يواجه فن الحفر على الخشب والأحجار تحديات كبيرة، من ارتفاع أسعار المواد الأولية، إلى تراجع الإقبال عليها لصالح المنتجات الصناعية. لكن الهاشمي يصر على مواصلة العمل، ويؤكد أن "القطعة اليدوية لا يمكن لأي آلة تقليد روحها".

ويحلم بأن تتحول هذه الحرفة من مجرد نشاط فردي إلى مشروع تعليمي يُدرّس للأطفال والشباب، خاصة في المدن التي تمتلك تاريخًا طويلًا في الفنون الشعبية. ويقول: "إذا تعلم شاب واحد هذا الفن وأحبّه، فأنا أكون سعيدًا، لأن ذلك يعني أن المهنة ستعيش بعدي". 

وسط ضجيج المعرض، ومع مرور الزوار حول جناحه، يواصل الهاشمي شرح فنه بابتسامة هادئة. يضع قطعة خشب في يد أحد الأطفال، ويقول له: "أخذها.. وخلّ الصبر صديقك". ثم يعود ليكمل عمله، وكأنه ينحت الزمن نفسه.