شفق نيوز- بغداد

بعد أن كان العامل مصدر فخر يتغنى به، ورزقه في أعمال البناء من الرزق الحلال الذي يضرب به الأمثال، راح البعض منهم يقلل من شأن تلك الصورة عن العامل ويشوهونها ببعض أساليب الخديعة، ويتجلى ذلك بقصة السيد بسمة وليد، التي لم تستطع اكمال بناء منزلها الا بعد سنتين، حيث بقيت تبحث عن عمال يكملون بناء بيتها على اكمل وجه، لكنها لم تتمكن من ذلك الا بعد مضي هذه المدة بسبب مماطلة العمال واستغلالهم لها.

تقول بسمة، لوكالة شفق نيوز: "عانيت اقسى المعاناة في رحلة البحث عن عمال عراقيين جيدين، ولكني لم اجد، ومع مرور فصل الشتاء تعرض البيت الى الرطوبة والمطر بسبب تأخير العمال وتقاعسهم عن انجاز العمل".

وتضيف وهي تتذكر معاناتها المريرة مع العمال: "كنت وحيدة في معركتي الدائمة مع العمال من اجل انجاز بناء المنزل، ولكن عبثا، اذ لم يكن هناك رجل معي يراقب عملهم، فكنت اعود من الدوام وارى البناء على حاله، او في احسن الاحوال بناء صف او صفين من الطابوق".

وتؤكد بسمة، ان "العمال يتقاضون اجرهم اليومي بشكل طبيعي وهو ما يدفعهم لتأخير العمل (التسخيت باللهجة العراقية الدارجة)".

وتتابع: "عندما تم بناء الارضية كانت بحاجة الى تراب او سميد لتثبيتها ومساواتها، وتم صب الارضية بالاسمنت، ولكن وبعد اشهر بدأت تظهر شقوق وارتفاعات في الارضية، فدعوت الاسطة لاصلاحها، ولكن اتضح لي ان الاسطة السابق قام بجلب تراب من النفايات وليس ترابا نقيا"، منوهة الى ان "تراب النفايات كان يحتوي على نسبة من المياه والرطوبة ما تسبب بضرر في ارضية المنزل".

ويعد "الاسطة" وهو البناء الرئيسي الذي يملك الخبرة الاكبر في البناء والمسؤول عن ادارة تفاصيل العمل اليومية، ويتولى كما هو معروف تحديد قياسات البناء، وشد الخيوط، وضبط المناسيب، والاشراف على مرحلة الطابوق والتشطيبات الدقيقة. كما يقع على عاتقه توزيع المهام على العمال وضمان ان تسير مراحل البناء وفق المعايير المطلوبة، ما يجعله محورا رئيسيا في العمل.

اما العامل فيعتمد على الجهد البدني في اداء عمله وتنفيذ طلبات الاوسطة، مهام بحمل الطابوق والمواد الانشائية وخلط الاسمنت وتجهيز الادوات وتنظيف موقع العمل.

ويعد العامل الذراع المساعدة للاسطة، ويسهم في تسريع وتيرة الانجاز وتنظيم الموقع. ومع مرور الوقت واكتساب الخبرة، ينتقل بعض العمال الى اسطوات بعد تعلم المهارات اللازمة.

هذا التقسيم في المهام بين الاسطة والعامل لا يعكس فقط اختلاف مستوى الخبرة، بل يؤثر على جودة البناء وسرعة الانجاز، ما يجعل فهم هذه الادوار اساسيا عند تحليل طبيعة العمل داخل مشاريع الانشاء في البلاد.

بيد ان بعض المقاولين يشكون من سوء اداء العمال المحليين وتبديد اوقات العمل في الطعام وتبادل الاحاديث، وهو ما يؤخر الاعمال التي يتفقون على انجازها ضمن مدد محددة.

وفي هذا الصدد، يسرد المقاول فؤاد محمود الصافي، مشكلاته مع العمال، لوكالة شفق نيوز، بالقول: "كان يعمل معي نحو 110 عمال محليين، ولكن بسبب تقاعسهم وتلكؤهم، فقد استغنيت عنهم جميعا باستثناء 15 من الاسطوات، واستبدلتهم بالعمالة الاجنبية".

ويؤكد الصافي، ان "مشكلة العمال المحليين لا تقتصر على سوء العمل وتبديد الاوقات وحسب، بل في ان المقاول يشعر بالحرج والخوف حين يلومهم على تقاعسهم، لانه يخشى من التهديد العشائري".

ويوضح الصافي بعض الاساليب التي يلجأ لها العمال المحليون في تبديد اوقات العمل، ومنها، "الانشغال بالمكالمات الهاتفية، وتناول وجبة طعام بين فينة واخرى، وطلب اجازة زمنية او التغيب عن العمل، وان معدل ساعات العمل الفعلي لا تتجاوز 3 ساعات من اصل ثماني ساعات، فاذا تعرض العامل لحادث خلال العمل فان العشيرة تطالب بتحمل المقاول دفع راتبه مدة ستة اشهر، اضافة الى تحمل تكاليف العلاج والطبابة".

وليس المقاولون او من يبني بيتا يعاني من مشاكل العمال، بل حتى بعض الاسطوات يعانون ايضا من العمال المحليين.

وفي هذا الشأن، يذكر الاسطة نزار سعدون الذي امضى نحو 25 عاما في مهنة البناء: "هناك عمال بناء يخرجون الى العمل رغما عنهم، وقد يكون بضغط من الاهل او يكون العامل محتاجا لمبلغ معين، فيخرج الى العمل من اجل توفير المبلغ الذي يريد لكنه غير راض".

ويبين في حديثه لوكالة شفق نيوز، ان "بعض العمال لا يحترمون الاسطة ولا يتقبلون منه التوجيهات التي تخص العملية، ويهددون الاسطوات بالعراك والضرب او العشائر وسوى ذلك، وهو امر غير مقبول وغير لائق، فالعمل مقدس وهو مسؤولية وعدم اتقانه وانجازه في الوقت المحدد هو خيانة للضمير".

ويتقاضى عمال البناء في الغالب اجرا يوميا يتراوح بين 35 الى 40 الف دينار عراقي، ووفق اصحاب المهنة، فهذا المبلغ قد لا يتناسب والجهد الذي يقدمه العامل غير الكفوء، خاصة ذلك الذي ينشغل بهاتفه فترات طويلة او يماطل من اجل تضييع الوقت.

ويفضل العديد من المقاولين والاسطوات الاستعانة بالعمال الاجانب في العمل، لتفادي تأخير الانجاز.

وبلغ عدد العمال الاجانب في العراق نحو مليون عامل العام الماضي حسب وزارة التخطيط، ومعظمهم يعملون بشكل قانوني، فيما يعمل نحو 71 الف عامل بشكل قانوني، اي بنسبة اقل من 10 بالمئة من اجمالي العمالة الاجنبية.

ويبرر العامل صادق علي، اداءه السيئ ورغبته في تأخير الانجاز بقلة فرص العمل، حيث يقول لوكالة شفق نيوز، ان "من الصعوبة ان نحصل على موقع جديد للعمل، لذا نعمد الى المماطلة لفترة اطول من اجل تقاضي اجور يومية بدلا من العطالة".

ويزيد: "في الوقت الذي نعمل به في احد المواقع ننتظر فرصة للحصول على موقع جديد، وعندما يتوفر نسرع في انجاز العمل الذي نعمل فيه كي ننتقل الى الموقع الجديد".

اما العامل مجيد لفته فيقول لوكالة شفق نيوز: ان "العمل في مجال البناء متعب للغاية ويتطلب جهدا كبيرا، لذلك نرى كثيرا من العمال يحاولون التملص في الانشغال بالهاتف او تدخين سيجارة وغير ذلك، والجميع بانتظار انقضاء اليوم واستلام الاجر".

ويعزو الباحثون سبب تسويف بعض العمال المحليين وتقاعسهم عن العمل لاسباب كثيرة، حيث يجد الباحث الاكاديمي المختص بالشأن الاجتماعي، كريم الجابري، أن "كل مجتمع من المجتمعات يخضع لعوامل وظروف مختلفة، تصنع منه طرازا معينا، يتمتع بخصائص وتقاليد وسلوكيات مختلفة".

ويوضح الجابري، لوكالة شفق نيوز: "لا تغيب عن الذهن بعض المواهب او السلوكيات الفردية، ولكنها استثناء وليس سياقا عاما، والقاعدة ان الفرد العراقي يشعر بشيء من التعالي والفوقية التي تبرر اعماله وافعاله وان كانت غير صحيحة".

ويضيف: "ينسحب هذا القول على الافراد من العاملين في مجال البناء او المطاعم ومجالات خدمية اخرى"، منوها الى ان "اضاعة وقت العمل من قبل البعض، واحدة من التصرفات السلبية التي تنعكس على المجتمع وتأخذ طابعا عاما وهو امر مؤسف، لان العراق بلد الحضارة وتاريخه العريق شاهد على سباقه مع الزمن من اجل بناء حضارة خالدة".

ويلفت، ان "بعض السلوكيات لدى العراقيين ذهبت مثلا، لان هناك من يحاول ترسيخها بسلوك غير حضاري، من خلال التقاعس وعدم اتقان العمل او التملص منه"، مشيرا الى ان "قانون الضمان الاجتماعي وحقوق العامل القانونية والاجور الجيدة سحبت الذرائع والمبررات من اولئك الذين يعلقون تقاعسهم على شماعة قلة الاجور او غياب الاطر القانونية التي تحميهم وتنظم عملهم".

ويؤكد، ان "الضغوط النفسية التي تنتج عن الاعمال الشاقة التي يمارسها العامل او غياب التقدير لجهود العامل او السخرية منه، تجعل بعض العمال ينفلتون عن العمل، وان استخدام المفردات الرقيقة في التعامل مع العمال والاهتمام بهم وتقدير جهودهم من اهم المحفزات التي تحارب هذه الظاهرة السلبية في المجتمع العراقي".