شفق نيوز/ استعرض "معهد الشرق الاوسط" الامريكي التحديات والمصاعب والتحولات التي شهدها ميدان الثقافة في العراق خلال العقود الأخيرة، ومحاولات إحياء الحياة الثقافية في البلد خلال الاعوام ال20 الماضية، برغم التعثرات والعقبات التي تواجهه.
وبداية أشار التقرير الأمريكي الذي ترجمته وكالة شفق نيوز؛ الى ان المشهد من الطابق الثامن لفندق بابل عبر نهر دجلة يكشف عن مشهد مخادع، موضحا ان العلم العراقي يضيء كلوحة اعلانية عملاقة من النيون تزين مركز بغداد التجاري المؤلف من 32 طابقا، وذلك بين اعلانات "الكوكاكولا"، فيما يلوح شبح المهندسة المعمارية العراقية -البريطانية الراحلة زهى حديد بشكل كبير فوق البرج المجاور الذي يجري تنفيذه بعدما تم تكليفها في العام 2010، بهندسة هذا البرج ليكون مقرا رئيسيا للبنك المركزي العراقي ورمزا لـ "عهد جديد"، لكنه لم يكتمل حتى الآن، فيما لا يزال المهندس الاسترالي الذي ساعدت شركته في بنائه، محتجزا في السجون العراقية بعد نزاع حول الدفع.
ولفت التقرير إلى أن زها حديد ربما تتشاور مع شبح سميراميس التي تحوم روحها في المعرض الاشوري في المتحف العراقي المجدد حديثا، حول تحديات بناء القصور على ضفاف النهر، مضيفا أن مصير سينما سميراميس الفخمة المكونة من ثلاثة طوابق وتعود إلى السبعينيات وسميت على اسم الملكة الاشورية، قد يكون مرشدا للفهم.
وتابع التقرير أن السينما تقع في شارع السعدون على بعد بضع مئات الأمتار من ضفاف نهر دجلة، وقد نجت من إغلاق دور العرض في فترة الحظر الدولي عندما كان يتم حظر دخول المواد الكيميائية الخاصة بمعالجة الافلام.
واضاف ان دار السينما استسلم أمام الفوضى والعنف بعد غزو 2003، وأغلقت السينما في العام 2007، وتحولت الآن إلى صيدلية.
أما العراق، فإنه بحسب التقرير، دائما ما يكون سينمائيا في نطاقه وهو عبارة عن فيلم غريب تختلط فيه الملحمة التوراتية وهوليوود والكوميديا السوداء، مضيفا أنه بعد عقدين من قيام الجنود الأمريكيين باسقاط تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس، فإنه من المحتمل ان روحي زهى حديد والملكة سميراميس، تراقبان المشهد بقلق مرتبك وربما حتى بصيص من الامل.
واعتبر التقرير أنه رغم تراجع بغداد في اهتمامات الأخبار الدولية، إلا أن المدينة تزدهر مع ارتفاع أسعار النفط، وحافلة بالتطلعات العباسية الجديدة التي يغذيها النفط. ولفت الى فندق بابل المشيد على الطراز التاريخي من أجل استضافة القمة السابعة لحركة عدم الانحياز في العام 1982، لكن الحرب العراقية-الايرانية عرقلت انعقاد الاجتماع، وصار الآن مليئة بالحجاج الإيرانيين ورجال الأعمال الصينيين.
وتابع التقرير ان الاهم من ذلك، أنه بفضل تشريعات جديدة لمكافحة تبييض الأموال والتي طرحها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، فان الاموال يتم توجيهها ليس فقط الى الفنادق والعقارات، وانما ايضا الى المؤسسات الثقافية الجديدة، حيث تعهدت الحكومات العراقية بزيادة تمويلها، حتى انها تعهدت ببناء دار أوبرا طال انتظارها. واضاف انه من غير الواضح ما إذا كان هناك أي تمويل وطني معروض من أجل دعم الفنون بجزء صغير من ميزانية الدولة الإجمالية البالغة 153 مليار دولار، ليتم تخصيصها من أجل مشاريع حقيقية بدلا من رواتب موظفي وزارة الثقافة فقط.
وبعدما تساءل التقرير كيف تبدو الثقافة في العراق في العام 2023، قال انه في ظل الفجوة الآخذة في الاتساع بين الأغنياء والفقراء، فقد تراجعت التقاليد الثقافية القائمة قبل الغزو أمام الوقائع الرأسمالية.
ولفت إلى أن صالات العرض الجديدة تقوم ببيع الفن التجاري للسفراء الأجانب والعراقيين العائدين من الخارج، مع اضمحلال مشهد المعرض القديم الذي ازدهر في منطقة أبو نواس على ضفاف النهر ببطء، حيث اضطرت "صالة دجلة الفنية" الشهيرة، التي أطلقتها زينب مهدي في منزلها الذي يعود الى الحقبة الاستعمارية البريطانية في العام 1997، على إغلاق أبوابها، بعدما أصبح الحي موطنا لساكني العشوائيات ومقرات الميليشيات.
اما الان، فان "صالة دجلة" لا تبيع الأعمال الفنية سوى من خلال مواعيد مسبقة لهواة جمع الأعمال الفنية الخاصين.
وتابع التقرير؛ أن الفيلات المتهالكة التي تعود الى الحقبة العثمانية والاستعمارية في المنطقة، فإنها تتعرض الى تهديدات جديدة من مطوري العقارات مع اشتعال سوق العقارات.
ولفت التقرير الى انه على بعد اميال قليلة الى الشمال، لا يزال المتحف العراقي للفن الحديث يتعافى من نهب ما بعد الغزو لمجموعته المكونة من 8 الاف قطعة. وتابع أن أعمال الفنان العراقي الرائد شاكر حسن آل سعيد التي تعود إلى حقبة السبعينيات تحت عنوان "الموت للاستعمار"، احد الاعمال الفنية القليلة من العصر الذهبي للفن العراقي التي لا تزال معروضة في المتحف، مضيفا أن الإرث الفني العراقي يواجه اليوم شكلا جديدا من النهب يتمثل في التزوير والاتجار غير المشروع.
وعلى هامش معرض فني جديد في الكرادة، لفت التقرير الى اختلاط بعض شخصيات الحرس القديم من الفنانين معه الأثرياء الجدد، ونقل عن الممثل والكاتب المسرحي المخضرم هيثم عبد الرزاق تصريحات خطيرة، على هامش المعرق.
وتابع التقرير أن مسرحية عبد الرزاق الاخيرة بعنوان "مرض الديمقراطية" تتناول بالنقد الفساد وفوضى التدخل الأمريكي وتداعياته. وقال عبد الرزاق أنه حتى في ظل "العراق الجديد، لا تزال هناك خطوط حمراء لا يمكنك تجاوزها. لا يمكنك التحدث عن التسلسلات الهرمية الدينية أو الميليشيات"، مضيفا انه اذا اراد شخص تناول أي قضية الفساد، فعليه أن يعتمد الأسلوب العمومي وليس المحدد.
وأشار عبد الرزاق إلى أن الكثير من أعماله تتم في الخارج، في فرنسا وألمانيا، مضيفا أنه يعمل حاليا على مسرحية أخرى حول "الديمقراطية"، والتي تأخذ المثال العراقي الى مستوى عالمي بحيث "الديمقراطية هي مجرد غطاء للأثرياء حتى يصبحوا أكثر ثراء".
وبعدما ذكر التقرير بمسرحة عبدالرزاق في العام 2004 بعنوان "انا اسف سيدي ، لم اقصد ذلك" والتي تتناول قضايا حرية التعبير، والتي لم يتم عرضها في بغداد، قال عبد الرزاق ردا على سؤال عما إذا كانت هناك حرية في العراق الآن، بالقول "هل هناك حرية في أي مكان؟ هناك خطوط حمراء في كل مكان. في امريكا، يصدرون الحرية والديمقراطية بتدخلات عسكرية عنيفة".
ونقل التقرير عن الشاعر الراحل سعدي يوسف قوله في العام 2005، أن "الأمر لم يكن سهلا على الفنانين في العراق". ولفت التقرير إلى أن يوسف كان بمثابة رجل الثقافة العراقية واشتهر بقصيدته "امريكا امريكا" التي هي بمثابة نشيد للتحدي الثقافي.
وتابع أن يوسف يعتبر أن العصر الذهبي القصير للفنون في العراق، تزامن تقريبا مع عهد سلف صدام حسين، الرئيس أحمد حسن البكر الذي الى حين استقالته في العام 1979، كان يجري تحويل عائدات صناعة النفط المؤممة حديثا إلى الفن العام والمجلات الأدبية والمسارح وصالات العرض، فضلا عن حملة ناجحة للقضاء على الأمية.
وينقل التقرير عن يوسف قوله أن الأمور بدأت تتغير مع صعود صدام الى السلطة، حيث تمت التضحية بمئات الآلاف من الشباب في ساحة المعركة مع إيران، وتم استنزاف الموارد الثقافية من أجل تمويل الحرب، كما أن 13 عاما من العقوبات القاسية التي تلت غزو صدام للكويت العام 1990 خلقت حياة بائسة للمدنيين العراقيين بينما ساهمت في ترسيخ سلطة النظام، وفرضت تحديات جديدة على فناني العراق.
وبحسب يوسف وهو يتنهد بحزن ان الوضع الان (في العام 2005) فانه يفتقر إلى الأمن بعد الغزو ونهاية الدولة التي كانت علمانية في السابق، معتبرا أن "هذا أسوأ ما حدث على الإطلاق".
وتابع التقرير انه رغم ان الوضع الان في العام 2023، اكثر امانا، الا ان هناك شعور بأن الأمور تتلاشى ويتم محوها، كما لو ان سنوات الفتنة قد خلقت نوعا من الرقابة الذاتية والفراغ الفكري، مضيفا أن الثقافة العراقية كما كانت قديما، تختفي مثل العديد من مواقعها القديمة واثارها الحديثة، فيما تشق الجرافات طرقات جديدة وتقام مراكز التسوق.
وحول مسرح الرشيد الذي دمرته القنابل الأمريكية في العام 2003 وتعرض للنهب من قبل اللصوص، فإن الأمر تطلب 20 عاما لبدء إعادة إعماره. ونقل التقرير عن المدير العام للمسرح والسينما بوزارة الثقافة أحمد حسن موسى قوله انه يأمل ان يتم الانتهاء من الإصلاحات التي بدأها متطوعون في العام 2016 بقيادة وزير الثقافة الأسبق عبد الأمير الحمداني في العام 2019 في الوقت المناسب لمهرجان دولي كبير للمسرح في الخريف المقبل.
وذكر التقرير انه رغم ان المؤسسات التعليمية في بغداد التي كانت الأفضل في العالم العربي، لا تزال تتعافى من حملة الاغتيال التي أعقبت الغزو ضد الأساتذة والمثقفين، فإن كلية الفنون الجميلة تواصل جذب عشرات الطلاب المتحمسين. واضاف انه تم تحويل 300 مليون دولار لقصور صدام القديمة بالقرب من المطار الى الحرم الجامعي الجديد للجامعة الأمريكية في العراق – بغداد، وذلك بتمويل من عائلة عراقية واحدة. واضاف التقرير انه مثلما سعى صدام لاعادة بناء بغداد كعاصمة للعباسيين الجدد في العام 1982، فان حرم الجامعة الأمريكية في العراق مستوحى من بيت الحكمة والمدرسة المستنصرية، والتي كانت من مراكز التعلم في العصور الوسطى.
فواصل موسيقية
وذكر التقرير أن الأمور تبدو أكثر إشراقا للمشهد الموسيقي في بغداد، منذ أن تراجع عنف الميليشيات بعد الغزو ضد فرق الاوركسترا الغربية، في حين زاد التمويل الاجنبي والحكومي.
وتحدث التقرير عن عازف العود احمد سالم، وهو مدير مدرسة الموسيقى والباليه، ومدير "معهد الموسيقى" الذي يقع في القنصلية البريطانية السابقة في العهد العثماني (حيث اعتادت جيرترود بيل الإقامة) في شارع الرشيد الذي تم ترميمه حديثا بدعم من الوكالة الامريكية للتنمية الدولية .
ولفت سالم إلى أن الأمن اصبح الان افضل مما كان عليه في أعقاب الغزو، عندما عزفت الاوركسترا الوطنية العراقية تحت حراسة مسلحة، مضيفا أن المشاريع الثقافية في مرحلة ما بعد داعش، دعمت الموسيقى من أجل استعادة مكانتها التي تستحقها في المجتمع العراقي. واشار الى ان هذه الموسيقى تتكون في الغالب من موسيقى البوب غير المسيئة سياسيا وموسيقى الآلات، على عكس اغاني الاحتجاج التي يتم نشرها بشكل روتيني بشكل مجهول على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتابع التقرير أنه في تلك الليلة، كان الضيف الخاص هو الموسيقي نصير شمه، والطلاب الصغار المتنافسون هم جميعهم مرتبطين بمشروع "بيت العود" الذي يهدف الى الحفاظ على الموسيقى التقليدية وتعزيزها. واضاف ان انه بعدما القى نصير شمه، وهو سفير اليونسكو للسلام، خطابا حول انتصار الثقافة العراقية في أعقاب داعش، قام العديد من الطلاب - من العراقيين واللاجئين السوريين الذين وصلوا مؤخرا بالتنافس من أجل الحصول على الجائزة الاولى، مشيرا الى انه كان شيئا مثيرا للتفاؤل مشاهدة شبان يتنافسون من خلال العود بدلا من تجنيدهم في الميليشيات.
يحلم ببغداد في كوردستان
ونقل التقرير عن عازف العود الكوردي ماجد الخالدي، المقيم في السليمانية، والذي كان سبق له أن قام بتدريس سالم ويتحدر من الاعظمية، انه تواق من اجل العودة الى بغداد، مضيفا ان "هناك الكثير من العمل للموسيقيين في بغداد. انها العاصمة العالمية بعد كل شيء".
وبحسب الرسام الكوردي المخضرم عثمان احمد، الذي كان موضوعه الدائم هو الابادة الجماعية والذي قدم دروسا فنية لأطفال مقاتلي الاستقلال الكوردي، فقد اشار الى ان التمويل للفنانين في بغداد اكثر من اقليم كوردستان. ونقل التقرير عن أحمد الذي عاش وتدرب في لندن منذ عقود، قوله "احب ان احصل على عرض هناك".
ولفت التقرير إلى أن رسومات احمد المفصلة بالقلم والحبر التي تصور الابادة الجماعية للكورد، تتمتع بشعبية أكبر في الغرب منها في السليمانية.
وختم التقرير بالقول إنه فيما يتعلق بمتحف العراق، فان المديرة الجديدة لمى الدوري تخطط لتوسيع البرامج التعليمية، بينما يعد المعرض الاشوري الذي تم تجديده مؤخرا جوهرة بين العديد من الغرف الرائعة. واضاف التقرير ان المتحف الذي كان في يوم من الأيام رمزا للدمار الثقافي الذي أحدثه غزو 2003 ، أصبح مثالا واعدا على التجديد الثقافي المستمر، وإن كان هشا ، في العراق.
وتابع قائلا انه "في الوقت الحالي، سيكون لدى اشباح سميراميس وزها حديد، بالاضافة الى لمياء الجيلاني عالمة الآثار الكبيرة الراحلة التي قاتلت من أجل بقاء المتحف العراقي، الكثير لمناقشته".
وخلص التقرير الأمريكي الى القول انه في العراق وهو بلد ارتبط التطور الثقافي المعاصر فيه تاريخيا بسعر النفط، فان المرء يأمل بأن بعضا من استثمار الدولة في العصر الذهبي في السبعينيات في الفنون، سيصير شيئا ملموسا قريبا، ليخلق وضعا موازنا لتقلبات السوق الحرة، وكنعمة لثقافة قديمة تنهض من رماد ثلاثة عقود من الدمار".
ترجمة: وكالة شفق نيوز