شفق نيوز/ على الرغم من مضي أكثر من سنتين ونصف السنة على تفشي فيروس كورونا في العالم، إلا أن الدول ما زالت على ما يبدو لم تتعايش مع تداعياته وبالأخص على الاقتصاد، حيث تصاعد المخاوف من وصول الحال في بعض البلدان إلى إعلان إفلاسها والاستسلام للفقر والمجاعة.
المخاوف الاقتصادية لا تقتصر على وباء كورونا فقط، فقد رافقه مؤخراً التضخم وأزمة الطاقة وارتفاع سعر الفائدة، ويحاول البنك الدولي منع حدوث السيناريو الأسوأ، والخبراء يحذرون من انعكاسات ذلك على باقي دول العالم.
الجوع في سيريلانكا
جاغاث غونازينا فقد الأمل، فهو يبعث كل يوم زوجته وابنه إلى العاصمة السيريلانكية كولومبو، لشراء أسطوانة غاز لبسطة الطعام التي تملكها العائلة وتعيش منها لكن دون جدوى، إذ تعود الزوجة والابن كل يوم تقريبا بدون غاز، بحسب وكالة بلومبرغ للأنباء.
ويقول غونازينا "لحسن الحظ ما يزال هناك بعض ما تبقى من البسطة لنأكله نحن، ولا أدري كيف يتدبر الآخرون أمورهم، للطهي أو تغطية نفقاتهم".
وفيما تعرب الدول الغربية عن مخاوفها بشأن النمو الاقتصادي وتخشى من الركود، تعاني سريلانكا من ذلك فعلا، حيث يعاني 23 مليون نسمة من أزمة اقتصادية خانقة لم تشهد البلاد مثيلا لها منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1948، فمنذ عدة شهور تعجز الدولة عن دفع ديونها الخارجية، وأعلنت في ايار/ مايو عدم قدرتها على الدفع.
وإفلاس الدولة له نتائج كارثية على المواطنين، حيث هناك نقص في الغذاء والبنزين في كل مكان، وفي بعض أجزاء البلاد لم تعد هناك حتى أدوية أيضا، واليأس المنتشر بين الناس أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة، زادت من عدم استقرار الحكومة غير المستقرة أصلا.
كارثة مطلقة
وهناك مخاوف من أن تتسع الاضطرابات وتتجاوز حدود البلاد، حيث أن سريلانكا ليست البلد الوحيد الذي يكافح ضد الإفلاس، فمزيج من الصدمات التي يتعرض لها الاقتصاد الحقيقي والضيق النقدي "سيدفع الكثير من الدول ذات الدخل المنخفض إلى إعادة جدولة ديونها"، يقول الخبير الاقتصادي الأمريكي، جون ليبسكي.
وليبسكي كان لسنوات طويلة في إدارة صندوق النقد الدولي، وهو يصف الوضع في هذه الدول بالقول "وهذه كارثة مطلقة، نسير باتجاهها".
وبحسب معطيات البنك الدولي، فإن 60% من الدول الأفقر في العالم، تجد نفسها في أزمة ديون، أو أنها مهددة بها، حتى أن دولاً مثل باكستان وتونس وإثيوبيا والسلفادور وغانا مهددة بخطر الإفلاس.
ويحذر الخبراء من أنه إذا ازداد عدد الدول غير القادرة على تسديد ديونها، فسيكون لذلك نتائج عالمية "فخطر حدوث أزمة ديون واسعة مع تأثير الدومينو، أكبر اليوم مما كان عليه خلال جائحة كورونا"، تقول ريبيكا غرينسبان وهي اقتصادية كوستاريكية، وتعمل كأمين العام لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) قبل بضعة أسابيع.
ومن السذاجة القول إن الدول المعنية ليست مسؤولة أيضا عما آلت إليه الأمور، ففي سريلانكا مثلا أدى مزيج من سوء الإدارة والفساد والخفض الكبير للضرائب على مدى أعوام طويلة، إلى العجز الاقتصادي للبلاد.
كورونا والتضخم
الإعفاءات الضريبية أدت إلى حدوث فجوة كبيرة في خزانة الدولة، واتسعت الفجوة أكثر خلال جائحة كورونا وازداد العجز في الميزانية، وخلال الجائحة خسرت سريلانكا أحد أهم مصادر دخلها ألا وهو السياحة، وبعد ذلك جاء ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية نتيجة حرب أوكرانيا.
والسبب في التأثير الأكبر للتضخم على البلدان الفقيرة مقارنة بالدول الغربية، هو الارتفاع القياسي لسعر صرف الدولار، ما يشكل عبئاً كبيراً على تلك البلدان التي تدفع ثمن مستورداتها من الطاقة والأدوية والمواد الغذائية بالدولار.
وفي كثير من بلدان أفريقيا يدفع الناس حتى 40% من دخلهم ثمنا للطعام والشراب فقط، وهو أكثر من ضعف ما يدفعه المواطن في الدول الصناعية، وارتفاع الأسعار في تلك الدول الفقيرة لا يؤدي إلى إفراغ جيوب الناس فقط، وإنما إلى الجوع أيضا.
وحكومات هذه الدول الفقيرة تكافح بالدرجة الأولى ضد العبء الثقيل للديون الخارجية، فحتى نهاية العام الحالي يجب أن تدفع الدول الـ75 الأكثر فقرا في العالم، نحو 35 مليار دولار ديونا خارجية، حسب تقديرات البنك الدولي.
وفي نهاية عام 2021 انتهى تأجيل سداد الديون الذي منحته دول مجموعة العشرين للدول الفقيرة بسبب جائحة كورونا.
رفع سعر الفائدة يفاقم الأزمة
وما يفاقم أزمة الديون هو أن الكثير من البلدان الصناعية قد تخلت عن سياستها النقدية المتساهلة جدا، فحتى قبل أشهر قليلة استفادت دول مثل باكستان من سعر الفائدة المنخفض للغاية في الدول الغنية، لكن بما أن العديد من دول العالم عليها محاربة التضخم الآن، ارتفع سعر الفائدة عالميا.
ومؤخرا رفع البنك المركزي الأمريكي سعر الفائدة الأساسي 75 نقطة، مثلما فعل قبل 30 عاما، وهكذا باتت الكثير من الدول غير قادرة على تحمل أعباء ديون جديدة لإعادة التمويل.
وحتى دول مثل مصر وفيتنام وتركيا والفلبين أصبحت في حالة تخلف عن سداد الديون، وحذر البنك الدولي قبل أسبوع من أن "أزمة الديون التي كانت مقتصرة حتى الآن على الدول المنخفضة الدخل، بدأت تنتشر لتصل إلى الدول المتوسطة الدخل".
ويرى مدير صندوق التحوط، جاي نيومان، أن الصين لعبت دورا أساسيا في الانهيار المالي للدول الصاعدة، وكتب في مقال رأي نشرته مؤخرا صحيفة فايننشال تايمز، إن الصين أوقعت سريلانكا ودولا نامية أخرى في فخ القروض السخية.
فقد دفعت الصين سريلانكا لتمويل مشاريع مكلفة وغير اقتصادية من خلال القروض، والآن بسبب الديون المستحقة تحمل الصين "السوط في يدها".
المستثمرون يسحبون أموالهم
لذلك يقوم الآن الكثير من المستثمرين بتصفية أعمالهم، بعدما استفادوا من العوائد المرتفعة في أسواق البلدان الصاعدة، ولأعوام عديدة تم إغراؤهم بحجة أن الاقتصادات الناشئة تنمو بسرعة أكبر من اقتصادات الدول الصناعية الضخمة، والآن تبخرت هذه الوعود.
فخلال هذا العام سحب المستثمرون أكثر من 40 مليار دولار من أسواق أسهم البلدان الصاعدة، حسب بيانات مركز الأبحاث الأمريكي (EPFR Global) في بوسطن، في حين أنه وقبل عام في نفس الفترة تدفق أكثر من 50 مليار دولار على أسواق تلك البلدان.
وعلى عكس أزمات الديون السابقة، فإن هروب رؤوس الأموال لم يطل المستثمرين المحترفين فقط، وإنما الملايين من المستثمرين الصغار الذين استثمروا في الدول الصاعدة، وذلك حسب مؤشر ما يسمى بصناديق الاستثمارات المتداولة.
مليارات من البنك الدولي
وتعهد البنك الدولي بتقديم 170 مليار دولار لتأمين استقرار بلدان مثل سريلانكا ومنع حدوث العدوى الكبرى، وهذا أضخم برنامج إنقاذ في تاريخ البنك، حتى أكبر من المساعدات المالية لمكافحة جائحة كورونا.
"يجب أن نرى أن أموال المساعدات تصل إلى أفقر الفقراء، لأنهم الأكثر تأثرا بهذه الأزمة" يقول بايكياسوتي سارافاناموتو، مدير مركز بدائل السياسة في حوار مع مجلة دير شبيغل الألمانية.
ويضيف "سيدوم الأمر من ثلاث إلى ست سنوات حتى نستطيع الحديث عن نوع من الحياة الطبيعة من جديد".