شفق نيوز/ كطائر أمضى عقداً من الزمن خلف قضبان القفص، هكذا يشعر العراقي روضان الجليدي بعدما ضاع من عمره كل هذه السنوات في مركز لجوء هولندي، لكنه خرج بعدها ليحلق في عالم الثقافة والأدب ويحقق جوائز مرموقة.
وذكر موقع "آي نيوز" البريطاني في تقرير ترجمته وكالة شفق نيوز، أن الجليدي أمضى نصف العشرينيات والثلاثينيات من عمره في مركز للجوء في هولندا بعد فراره من العراق، وعندما سمح له بالخروج من المركز بعد نحو عقد من الزمن، لم يكن يعرف ما طبيعة شعوره.
الحياة المسلوبة
لكن التقرير نقل عن الجليدي البالغ من العمر الان 51 عاماً، قوله "تخيل أن أحداً سلب منك حياتك، ثم بعد تسعة اعوام وتسعة شهور، تستيقظ وتقول: يا الهي، اين ذهبت حياتي؟ وتشعر أنك عجوز وضعيف، ولست إنساناً، وانما حيوان. لقد فقدت كل شيء".
وقال الجليدي "إذا أسرت طائراً من الغابة ووضعته في قفص، فلن يتمكن من الطيران جيداً بعدها.. لقد كان هذا هو شعوري".
وذكر التقرير البريطاني أن الجليدي، الكاتب الحائز على جوائز، كان قد هرب من موطنه العراق إلى هولندا خلال التسعينيات من القرن الماضي، بعدما كان قد تعلم وتدرب كمهندس مدني، إلا أنه أمضى بعد ذلك نصف العشرينيات والثلاثينيات من عمره في مخيم هولندي للاجئين، وهو يأمل وينتظر أوراقاً يفترض أن تتيح له العمل والعيش وأن يكون حراً.
الموت في القفص
ونقل التقرير عن الجليدي قوله إن "مركز اللجوء هو شكل غريب من السجون، ونحن في الانتظار فيها، فالباب مفتوح، إلا أنه ليس بإمكانك الهرب. الناس يحلمون بالخروج منه. مئات الاشخاص ينتظرون لكنهم لا يعرفون إلى متى، ومتى سينتهي هذا، متى سيحصلون على أوراقهم التي تجعل منهم بشراً".
وتابع المؤلف العراقي قائلا إن "ثمانية أشخاص كنت أعيش معهم قتلوا أنفسهم في المبنى. لقد حاولت الا أبكي هناك، وضحكت كثيراً".
وذكر التقرير أن مخاوف أثيرت في العام 2007، حول حقوق الانسان في نظام اللجوء الهولندي، وهو ما ادى الى معالجة طلبات لجوء 26 الف شخص من الاجانب تقدموا بطلباتهم قبل نيسان/ ابريل 2001 وسمح لهم بالبقاء في هولندا، حيث كان الجليدي من بينهم.
وتساءل التقرير من يعلم كم من الوقت ربما كان سيتحتم عليه الانتظار اكثر؟.
لا حقوق في التعليم
وتابع انه بصفته طالب لجوء غير مسجل رسميا، فان الجليدي لم يكن يتمتع بالحق في المشاركة في دروس اللغة، لذلك قام بتعليم نفسه القراءة والكتابة باللغة الهولندية.
فازت روايته "المتوحد والحمامة الحاملة"، بجائزة الاتحاد الاوروبي للاداب في العام 2011، وهو العام ذاته الذي فشل فيه في امتحان دورة المواطنة الهولندية.
وبالاضافة الى هذه الرواية، كتب الجليدي رواية " Two Blankets, Three Sheets" وهي بمثابة سيرته الذاتية وتعامله مع سخافات نظام الهجرة الهولندي، في حين ان روايته الاحدث هي "The Leash and The Ball" التي ترجمها من اللغة الهولندية جوناثان ريدر، تدور احداثها حول تجربة محاولة ان تبدأ بحياة جديدة كمواطن اوروبي بعد تسع سنوات من الاقامة في مركز اللجوء.
واشار التقرير الى ان الجليدي الذي اصبح مواطنا هولنديا، كثيرا ما يكتب ويتحدث بروح الدعابة عن معاناته.
أرقام بدلاً من الأسماء
يستعيد تجربة له عندما سمح له استثنائيا وهو خاضع لقيود نظام اللجوء، بالعمل في متجر لمدة شهرين، وان كل العمال كانوا من المهاجرين، وفي اليوم الاول سألهم المدير عن اسمائهم، وهي اسماء اجنبية مرتبطة بافريقيا والشرق الاوسط واسيا، ثم قالهم "اسف، انني حائر وضائع مع كل هذه الاسماء، من فضلكم، انني لا انظر اليكم بشكل غير انساني، ولكن كل هذه الاسماء تبدو متشابهة، هل بإمكاني ان امنحكم ارقاما بدلا من الاسماء؟".
وقال المدير للجليدي ان اسمه الاول روضان سهل على التذكر وبالتالي لا يحتاج الى رقم، ورد عليه الجليدي قائلا: "اريد رقما لنفسي ايضا، والا سيعتقد المهاجرون الاخرون انني جاسوس او شيء من هذا القبيل".
واوضح الجليدي انه "عندما يخبر الناس عن هذه القصة، فإنهم يغضبون، لكنني احاول ان ارى الجزء المضحك، لانه عندما تواصل الرئيس بنا عبر الارقام، شعر بالاسترخاء وبدأنا بالتواصل معه بشكل اكبر".
مركز لجوء الحيوانات
وتناول الجليدي تجربة اخرى محفوظة في ذهنه، حصلت بعد فترة قصيرة من حصوله على اوراقه الرسمية للجوء والاقامة، حيث سمع عن مكان لايواء الحيوانات، ويسميه هو "مركز طالبي اللجوء للحيوانات".
وقال الجليدي ان "السيدة هناك اخبرتني انه بعد ثلاث سنوات اذا لم يتم تبني الحيوانات يتم قتلها. الناس يعتقدون ان الحيوانات ليس بإمكانها الانتظار ثلاث سنوات، لكن البشر مثلي بإمكانهم الانتظار 9 سنوات و9 شهور".
حديثه عن محنة الحيوانات هذه، جعلت الجليدي يخرج مشاعره الدفينة، وقال "شاهدت الاف القتلى في الشوارع في العراق. الامريكيون يقتلون الجنود والمواطنين. الكل يقتل على الطريق. ولم اشعر بالالم وقتها، لكنني اصبت بالصدمة. لكن في مركز الحيوانات، كانت هناك دموع في عيني، وشعرت بالحيوانات وهي تحدق بي وتنتظر".
ضيوف غير مرحب بهم
ويسخر الجليدي من انظمة الهجرة ويقول "اذا كنت طالبا، واذا كنت مليونيرا، واذا كنت سائحا، فانت مرحب بك في كل مكان على هذا الكوكب، فالطلاب سوف ينفقون بعض المال ويغادرون، واذا كنت رجل اعمال مليونيرا، فانت مرحب بك حتى وان كنت مجرما لان لديك المال، وسيقوم السياح ايضا بإنفاق الاموال ومشاهدة التاريخ ثم يذهبون الى بلدانهم. واذا كنت لاجئا، فانت واطفالك غير مرحب بكم".
والان، اصبح الجليدي مقيما في هولندا، ولكن عندما يكون لديه ما يكفي من المال، فإنه يسافر الى اسبانيا ويتمشى في الجبال ويعزف على غيتاره، وهي اماكن صارت بمثابة وطنه وموطنه بالمعنى الحرفي، لكنه يقول انه لا يوجد مكان يشبه الوطن.
وذكر التقرير مع ذلك، ان الجليدي لم يعد يتوق لزيارة العراق، لانه عندما كان طفلا تحول الى لاجئ في وطنه، مضيفا انه عندما وصل صدام حسين الى السلطة في العام 1979، فرت العائلة من قريتهم في جنوب العراق الى بغداد، خوفا من الاضطهاد الذي تعرضت له الغالبية الشيعية، ثم قام والده بتغيير أسماء العائلة ليحافظ على سلامتهم.
وبعد تجربته الطويلة كمحتجز في مركز اللجوء، يقول الجليدي "الان عندما أجبر على البقاء في الداخل، او في مكان واحد، اشعر بالغضب، وكان هناك شيئاً مفقوداً. لدي حاجة بالاستمرار في التنقل والتعرف على اشخاص جدد واكتشاف الاشياء. وأكون سعيدا عندما اسافر اكون سعيدا".
ويختم الجليدي بسعادة وهو يقول "لم اعد اخذ الامور على محمل الجد. هناك حياة واحدة فقط، وليس لدي مئات السنين على هذا الكوكب. وليس لدي الكثير من الاشياء التي امتلكها، ولهذا استخدم الاشياء لفترة قصيرة، ثم امنحها لاحد".