شفق نيوز/ عندما يبدأ رئيس إقليم كوردستان نيجيرفان بارزاني حركته المرتقبة ما بين بغداد والنجف، فما من شك أن كل القوى العراقية ستضع رهاناتها العالية في أن تأتي محاولته لإخراج البلاد من عنق الزجاجة، بالنتائج المرجوة.
وكان مصدر في رئاسة اقليم كوردستان، أعلن ان نيجيرفان بارزاني سيقوم خلال هذا الاسبوع بزيارة الى بغداد والنجف، موفداً من قبل الزعيم الكوردي مسعود بارزاني في احدى اشد اللحظات العراقية قتامة بعدما غاصت البلاد في أكثر من 300 يوم من عواصف الشلل والجمود، ثم بدأت تنزلق مؤخرا الى مرحلة اكثر خطورة تتمثل في احتمالات الاقتتال الداخلي.
"المهمة المستحيلة" – بنظر الكثيرين – التي سيقوم بها الرئيس بارزاني، وهو المعروف بتحركه على قاعدة مهمة في العمل السياسي العراقي اختصارها بأنه لا توجد مشكلة لا يمكن حلها طالما صفت النوايا.
وبحسب مراقبين، فإن الوساطة المرتقبة للرئيس بارزاني فيما بين بغداد والنجف، بمثابة فرصة قل نظيرها بالنظر الى طبيعة الشخصية التي تقوم بها حيث ان لهذه الشخصية ميزات قد لا تتوفر في شخصية أخرى ناشطة على المستوى العراقي والكوردي، ويكون بالإمكان الرهان بقوة على قدرتها في تحقيق الاختراق المأمول لكسر دوامة الشلل والخوف التي اشتدت على ساحة العراق خلال الاسابيع الماضية.
ويدرك هذا الرجل، مثلما يدرك العديد من القيادات السياسية، وعلى المستوى الشعبي العام في العراق، أن لديه من المكانة ما يؤهله ليحط بثقة في دوائر صناع السياسة في بغداد وفي الحنانة، بحثا عن "الأمل" والتسويات، وهو أكثر ما تحتاجه الساحة العراقية في هذه المرحلة المفصلية، بعد أكثر من 10 شهور على الانتخابات البرلمانية التي كانت فرصة للتجديد، لكنها تحولت بفعل المناكفات والصراع على النفوذ، الى لحظة اضافية من البؤس العراقي الطويل.
ولهذا، فإن فرصة الاطمئنان التي سيحملها نيجيرفان بارزاني معه منذ انطلاقه من اربيل باتجاه بغداد والنجف، هي من بين أكثر ما يضمره عموم العراقيين في دواخلهم من رهانات، وهم يرون بلدهم ينزلق رويدا رويدا، فيما بات يوصف في الإعلام الغربي بانه أسوأ أزمة يعيشها العراق خلال العقدين الماضيين، وربما بما يعادل كارثة الغزو الداعشي قبل 8 أعوام.
وبحسب مراقبين، فإن من مفارقات مهمة وساطة نيجيرفان بارزاني، والقبول العراقي العام بها والمراهنة عليها، انها تأتي برغم ان هذا الرجل وهو الذي أمضى ثلاثة اعوام في رئاسة الاقليم حتى الان، يمثل الحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي كما هو معروف، ارتبط بالتحالف الثلاثي الذي نشأ خلال الشهور الماضية كائتلاف جمع التيار الصدري والكتلة السنية، بهدف محاولة تحقيق الأغلبية السياسية والبرلمانية الكافية، لتشكيل الحكومة العراقية التي طال انتظارها.
ويعني ذلك ان الحزب الديمقراطي الكوردستاني مفترض انه في قلب أزمة الصراع السياسي الدائر الان، خاصة بين الصدريين وقوى الاطار التنسيقي، وبالتالي فان تفاهم القوى السياسية المختلفة على ايلاء مهمة الوساطة العتيدة لنيجيرفان بارزاني واحتضانها بالمراهنة عليها، يعكس بان رئيس الاقليم سيتحرك ما بين بغداد والنجف مترفعا عن الحزازات السياسية والمصالح الفئوية او الحزبية الضيقة، لصالح نقاط العمل المشترك الاكبر ومساحات التسوية الواسعة والشاملة لمختلف القوى، والاهم لصالح هياكل الوطن الجامع.
هذه الوساطة بين "خصمين" اشتدت بينهما نقاط الصراع لدرجة صارت معها التقديرات العراقية والدولية تتخوف من تحولها الى اشتباك مسلح، هو بذلك يمارس مهارته مثلما اعتاد ان يفعل حتى عندما كانت ملفات الخلاف تطرح ما بين بغداد واربيل، او حتى داخل البيت الكوردي نفسه.
ويأتي نيجيرفان بارزاني محملا بارث حافل من العمل السياسي المكثف طوال اكثر من ثلاثة عقود والذي قاده تدريجيا الى اعلى منصب في السلطة في اقليم كوردستان، ثم ليتردد اسمه مرات عدة كمرشح محتمل للرئاسة في العراق، فيما تتعزز صورته كقيادي يعمل بهدوء مهما اشتدت الازمات، مستفيدا من تراكم خبراته مهما صعبت المراحل والمحطات، على قاعدة ان الازمات يمكن تحويلها الى فرص، وان مشكلات العراق هي دائما بمثابة المشكلة داخل العائلة الواحدة التي تتطلب بالتالي: الحوار والتفاوض.
ومنذ عين نائبا لرئيس الحكومة العام 1996 ثم رئيسا للحكومة العام 2006، ثم رئيسا للاقليم العام 2019، هزت العديد من الزلازل السياسية والاقتصادية والأمنية العراق من اقصاه الى اقصاه. وحتى على صعيد الداخل الكوردي، جرت تحولات كبيرة وبرزت مخاطر لا تحصى، كانت يمكن ان تكون كافية لانهاء الحياة السياسية لاية حكومة أو رئيس، لكن ذلك لم يحصل، مثلما جرى مثلا في العام 2014، عندما عصفت الانواء بكوردستان، فانهارت اسعار النفط العالمية، وظهرت عصابات داعش محتلة مدنا عراقية وكوردية، وقطعت الحكومة الاتحادية ميزانية الاقليم بسبب خلافات حول مبيعات النفط، وتدفق مئات الآلاف من حشود النازحين الى الاقليم. ولم يسمح نيجيرفان بارزاني للحكومة ان تسقط.
ويعتقد مراقبون ان مهمة التحدي الجديدة امام نيجيرفان بارزاني التي ستقوده الى بغداد والنجف، هي نتاج طبيعي وبديهي لكل ما سبق، يضاف اليها ان رئيس الاقليم نجح خلال العامين الماضيين في نسج علاقة طيبة مع رئيس الحكومة العراقي مصطفى الكاظمي الذي كان يرد التحيات الكوردية بأحسن منها، فيسعى بالتنسيق مع الرئيس بارزاني الى فكفكة تعقيدات الملفات الشائكة ما بين اربيل وبغداد والتي تراكمت في السنوات الماضية، من قضايا الحدود والثغرات الامنية والرواتب والعوائد النفطية وسنجار والتعاون العسكري وخلايا الارهاب، ما كان يعزز جهود رأب الصدع المشتركة بين الرجلين، ويعزز الثقة المتبادلة بينهما.
وليس سرا ان نيجيرفان بارزاني سيقوم بتحرك الوساطة الجديدة مسلحا بهذه العلاقة الجيدة مع الكاظمي، وبالتفويض البديهي الحاصل كثمرة لنتائج الاجتماعات والمشاورات المكثفة التي حصلت في الايام الاخيرة، وشارك فيها الكاظمي ورئيس الجمهورية برهم صالح ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي وقيادات الاطار التنسيقي والاحزاب المختلفة، بالاضافة الى ممثلة الامم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت التي سمح لها استثنائيا مؤخرا بزيارة السيد مقتدى الصدر في الحنانة والتي ما كفت تدعو الى اهمية اعتماد الحوار بين الجميع للخروج من الازمة الحالية. ومن المرجح ان تصب زيارة وزير الخارجية فؤاد حسين يوم الاثنين، الى طهران ومباحثاته مع كبار المسؤولين الايرانيين، في اطار التحركات المتعددة الجبهات، بما فيها حركة نيجيرفان بارزاني، للتوصل الى مخارج تقي العراقيين، مخاطر الاحتراب الداخلي الذي لا تحمد عقباه.
ولا بد ان نيجيرفان بارزاني، قد استشعر -كما فعل آخرون- مخاطر المرحلة التي دخل فيها الصراع الشيعي-الشيعي ان صح التعبير والذي تعدى نقطة التنافس بين التيار الصدري وبين الاطار التنسيقي، ليمس في ظل التحركات الاحتجاجية الاخيرة، رموز ومؤسسات الدولة كمبنى البرلمان ومجلس القضاء الاعلى، في وقت احتار المراقبون في محاولة فهم قواعد اللعبة الجديدة وما اذا كانت تعتمد مبدأ "اللعب على حافة الهاوية" ام انها تخطتها بالفعل نحو الانهيار التدريجي للبلاد أو نسف صيغة نظام دستور العام 2005.
ولهذا، من المرجح بحسب مراقبين ان تكون اولى بنود وساطة رئيس الاقليم، محاولة ان يحسم ما اذا كانت اسس الصراع الحالي ما زالت ضمن اطار اللعبة المقبولة سياسيا، ام انها تجاوزتها بالفعل الى المرحلة الاكثر خطورة، وبالتالي محاولة طرح بنود التسوية الممكنة والمقبولة من مختلف اطراف الصراع، وربما الاهم السعي الى استدراج مقتدى الصدر الى ملعب التنازلات والحوار، خاصة ان الزعيم الصدري، اثار قلقا واسعا مؤخرا بعدما قاطع "حبل النجاة" الذي القاه الكاظمي عندما استضاف جلسة للحوار الوطني، وتمنع الصدريون على حضورها.
يسير نيجيرفان بارزاني على درب قناعته المعلنة. في ايار/مايو الماضي خلال زيارته الى السليمانية قال بوضوح ان حماية العراق أمر مهم بالنسبة لنا وينبغي ان يكون الاقليم جزءا من حماية الدولة العراقية وينظر الى ذلك كواجب مشترك يقع على عاتق العراقيين كافة، مضيفا ان النظام الاتحادي في العراق سيكون عاملا في تقوية سيادة العراق ولن يضعفه بل يقوي من أواصر الشراكة بين مكوناته. وقال ايضا بما لا يدع مجالا للشك في طبيعة دور ورؤى الرئيس بارزاني، ان "أمن أربيل وكوردستان من أمن العراق، وسيادتنا ومصالحنا مشتركة، والنجاح والفشل مشترك ايضا".
وفي هذا الاطار، يلفت المراقبون الى ان حركة بارزاني الجديدة باتجاه بغداد والنجف، ليست فقط تأكيدا على حيوية حضور رئيس الاقليم على المستوى العراقي الداخلي -والكوردي ايضا – وانما تؤكد ايضا قدرته على التأثير في الاوضاع الاقليمية والخارجية، اذ لم يعد سرا، ان شرارات الازمة العراقية الان، تتطاير نحو اتجاهات خارجية عديدة، ومراقبة عن كثب من ايران الى تركيا الى الولايات المتحدة والسعودية وسوريا وفرنسا والصين وروسيا واللائحة قد تطول.
هناك ثقل اقليمي لنيجيرفان بارزاني ليس من السهل تجاهله، من زيارته ولقاءاته مع قادة العالم والمنطقة، في باريس ولندن وانقرة وطهران وابو ظبي والدوحة ودافوس وغيرها، وهو جانب يساهم بالتأكيد في فتح ابواب حل العقد والمخارج امامه.
وباختصار، فإن نجاح المهمة البارزانية في بغداد والنجف، من شأنها ان تعزز مكانة اقليم كوردستان لا في بغداد وحدها، وانما في المحيط الاقليمي الاوسع، باعتبارها ملجأ الحلول والحوار والتسويات، بقيادة الرئيس بارزاني الذي ربما افترض كثيرون – خطأ – انه كان عليه ان يتصرف وفق انحيازات حزبية وفئوية ضيقة باعتباره جزءا من قوى التنافس الحالي، لكنه في المقابل، آثر خيارات الحكمة والتروي، والرؤى الاكثر نجاعة وهدوءا، ما يجعل ورقة "الطمأنينة" هي الورقة الاكثر أهمية في أوراق نيجيرفان بارزاني المتعددة التي يحملها عادة معه في المهمات التي تبدو مستحيلة.