شفق نيوز/ سلطت مجلة "نيولاينز" الأمريكية الضوء على التنافس الحاصل على زعامة المذهب الشيعي فيما بين العراق وإيران، في مرحلة ما بعد المرجع الديني الأعلى علي السيستاني الذي بلغ من العمر 94 عاماً، حيث يخشى كثيرون من احتمال انتقال السلطة من النجف إلى طهران وقم، حيث تعرض إيران نموذجها من الحكم الديني المباشر، في حين ليس هناك خليفة واضح للسيستاني ليورث فلسفته المؤيدة للديمقراطية لجيل جديد.
وتناولت المجلة الأمريكية في تقرير على موقعها الإلكتروني، ترجمته وكالة شفق نيوز، بداية ما جرى في 22 شباط/ فبراير 2006، للدلالة على أسلوب السيستاني ومنعه انفجار الحرب الأهلية، عندما دمرت تفجيرات مرقد الإمامين العسكريين في سامراء، في هجمات نفذها تنظيم القاعدة.
الدفاع عن المراقد المقدسة
وأشار التقرير إلى أن الوفود وشيوخ العشائر والجماعات المسلحة المقربة من إيران، تدفقت على مقر السيستاني في النجف، للمطالبة بإصدار فتوى تجيز لهم التعبئة العسكرية للدفاع عن المراقد الشيعية والانتقام من السنة، وحتى اللجوء إلى فتوى من إيران للقيام بذلك، لكنه تمكن من احتواء الموقف باجتماعه مع باقي المراجع الشيعية في النجف، لضمان عدم صدور فتاوى تجيز لجوء الناس إلى السلاح، إلا ضمن أطر قوات الأمن العراقية.
وبحسب التقرير الأمريكي، فإن السيستاني رفض، موضحاً أن هذا هو بالضبط ما أراده تنظيم القاعدة، وهو خلق فخ وإشعال صراع شامل بين الشيعة والسنة.
وتابع التقرير أن السيتساني دعا إلى الصبر ثم أمر ابنه محمد رضا بدعوة آيات الله الثلاثة الكبار الآخرين في النجف لاجتماع عاجل، حيث كان يريد ضمان أن لديهم موقفاً موحداً في مثل هذه اللحظة الخطيرة، مضيفاً أن "النهج الدبلوماسي الذي اتبعه السيستاني، نجح".
وأضاف التقرير أنه من خلال هذه الطريقة "ضمن السيستاني أن النجف موحدة وأنها هي، وليست طهران، من يؤمن الزعامة لشيعة العراق، وساعد رفضه نشر الميليشيات، حتى في أحلك الظروف، في منع اندلاع حرب أهلية واسعة النطاق وتعزيز موقف النجف في العراق الجديد".
وأشار التقرير إلى أن نهج السيستاني يتناقض بشكل كبير مع أقوى رجال الدين الشيعة في إيران والذين يؤمنون بالحكم الديني المباشر وغالباً ما يدفعون نحو التدخلات القوية، بينما دافع السيستاني عن سلطة الناس والاستقرار طوال مرحلة من التقلبات والاضطرابات، لكنه الآن يقترب من الـ94 من عمره، ويتساءل العراقيون والشيعة في كل مكان عما سيأتي بعد ذلك، وما إذا كان نموذج الحكم الديني المباشر الذي تتبناه إيران سيتمكن من السيطرة على العالم الشيعي، أم أن السيستاني، الذي ليس لديه خليفة واضح، سيتمكن من توريث فلسفته المؤيدة للديمقراطية لجيل جديد؟.
"رجل الله في العراق"
ونقل التقرير عن كتاب يحمل عنوان "رجل الله في العراق: حياة وقيادة آية الله العظمى علي السيستاني" الصادر عام 2023، خلاصة مفادها أن إرث السيستاني يتجاوز الأفكار ويمتد إلى الشبكات والمؤسسات التي لها سلطة دائمة، وهو إرث يجعل من المرجح استمرار رؤيته برغم أن المنافسة بين المفاهيم الإيرانية والعراقية للإسلام الشيعي، قد تتزايد سخونة في السنوات المقبلة.
واعتبر التقرير أن حادثة سامراء تسلط الضوء على المنافسة بين المركزين الرئيسيين للسلطة الدينية الشيعية، حيث يقود السيستاني أحد الجانبين، ويقود مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي الجانب الآخر، إلا أنه بعد مرور نحو عقدين من الزمن، ما يزال القطبان في العراق وإيران مختلفين من حيث فلسفاتهما السياسية، ففي حين تأمل إيران أن تكون حامل لواء المسلمين الشيعة في أنحاء العالم كافة، فإن النجف، العاصمة الروحية للإسلام الشيعي، والحوزة العلمية الإسلامية فيها، كانت مصدراً للزعامة الدينية التي تتجنب إضفاء الطابع الرسمي على دور الدين في السياسة، وهو ما يتناقض مع النهج الذي تتبعه طهران في التعامل مع السياسة، وهو نهج الدولة الثيوقراطية القائمة على النسخة الخمينية من "ولاية الفقيه".
السيستاني وولاية الفقيه
ولفت التقرير إلى أن موقف السيستاني يتناقض مع موقف طهران، مضيفاً أنه منذ أكثر من 20 عاماً وحتى الآن كانت هناك منافسة بين الحوزة العلمية في النجف والنظام الإيراني على قلوب وعقول المسلمين الشيعة، حيث حاولت إيران زيادة وجودها في النجف من خلال رعاية طلاب المعاهد الدينية، والاستثمار في مشاريع البناء في المدن المقدسة، وبناء شبكة من الجماعات المسلحة ذات الولاءات السياسية والدينية لخامنئي.
وتابع التقرير أن طهران لم تكن قادرة على الالتفاف على السيستاني، الذي أكسبه أسلوبه الهادئ في السياسة في العراق معجبين ودفع الإيرانيين إلى التشكيك في نظامهم السياسي.
وقال التقرير إن المسألة لا تقتصر على أن السيستاني مصمم على أن سياق العراق لا يلائم قيام حكومة إسلامية فيه، بل أنه لا يريد أيضاً أن تتعدى الحكومة الإسلامية لإيران على العراق أو أن تحاول تشجيع تطوير نظام مشابه.
وذكرّ التقرير بما قاله السيستاني في العام 2004، وهو بمثابة ضمانة ضد ظهور نظام ثيوقراطي على النمط الإيراني في العراق، بقوله "طالما أنا على قيد الحياة، فإن التجربة الإيرانية لن تتكرر في العراق".
ورأى التقرير أن طهران لديها مشكلة خاصة لسببين رئيسيين، الأول هو أن هناك مرجعاً أعلى من خامنئي لديه عدد أكبر من الأتباع وحتى نفوذ دولي أكبر، ويمكنه الحد من سلطة خامنئي خارج إيران، والثاني هو أن السيستاني يمكن أن يؤثر على آراء المواطنين الإيرانيين، الذين بإمكانهم الآن أن يروا بوضوح نموذجاً بديلاً لدور المرجع في المجتمع الإسلامي.
وتابع التقرير أن هذا التنافس هو السبب الذي دفع إيران إلى العمل على التأثير على النجف ولكي ترى احتمالات لتعزيز موقعها هناك بعد وفاة السيستاني، مشيراً إلى أن خامنئي يحتفظ بمكتب في النجف منذ العام 2004، ويشرف ممثله الحالي في العراق مجتبى الحسيني، على حملة لتجنيد المزيد من الطلاب في المدارس المتحالفة مع إيران، مع إعطاء رواتب أكبر بكثير للطلاب من حوزة النجف.
ولفت التقرير إلى محاولات إيرانية عدة لإعادة تأكيد سلطة المرشد الأعلى الإيراني في العراق ودول أخرى.
وبرغم ذلك، يقول التقرير إن المسؤولين الإيرانيين، بما في ذلك خامنئي نفسه، حريصون أيضاً على إبراز مظهر الاحترام العلني للسيستاني، وهو ما يشير إلى إدراكهم أن سلطة السيستاني ومنصبه يكاد يكون من المستحيل تحديها، مذكرّاً كمثال، أن إيران اضطرت إلى القبول بعدم قدرة نوري المالكي على البقاء كرئيس للوزراء عندما أجبره السيستاني على التنحي في العام 2014.
ولهذا، قال التقرير إن "الفترة الإستراتيجية الأكثر أهمية بالنسبة لإيران ستكون بعد وفاة السيستاني، إذ أنه عند هذه النقطة قد تتمكن طهران من أن تكون قادرة على ممارسة المزيد من النفوذ وربما صياغة ظهور المراجع القادمين".
إلا أن التقرير قال إن السيستاني اتخذ بالفعل خطوات للحد من مثل هذه المحاولة حيث قام بزيادة أعداد الطلاب والمعلمين في حوزة النجف والاستثمار في المرافق والرواتب، ومن خلال السيطرة على المراقد والزيادة الهائلة في أنشطتها وأموالها وقدراتها بما يجعل العراق بمثابة أكثر عاصمة طبيعية للشيعة في العالم.
كما لفت التقرير إلى أن القانون العراقي الخاص بالأوقاف الشيعية يشير بشكل محدد إلى أن المرجع الأعلى في النجف، مما يبدد إمكانية فرض السلطة الدينية من إيران، مضيفاً أن القانون ينص على أن الأضرحة هي تحت سيطرة النجف، مما يجعل من المستحيل على المراجع في إيران السيطرة عليها، وبالتالي يحد من دورها المحتمل في العراق.
وذكر التقرير أنه برغم كل مظاهر التنافس والخلاف حول مدى السلطة الدينية فيما بين النجف وطهران، إلا أن هناك العديد من نقاط الاتفاق الكثيرة في الشؤون الدينية والسياسية وغيرها من الأمور، حيث أن العلاقات بين المراجع في العراق وإيران واسعة، والشبكات متداخلة ومتعاونة في معظمها.
سلطة الألف عام
على سبيل المثال، لفت التقرير إلى الزيارة الأخيرة التي قام بها رؤساء الحوزات العلمية في إيران إلى السيستاني، وكيف أن إيران أشادت علناً بقيادة السيستاني في العراق، مدركة أنه بدونه، كانت القوة الشيعية، وبالتالي احتمال النفوذ الإيراني، ستكون أكثر ضعفاً بكثير.
وتابع التقرير أنه بقدر ما يكون هناك تنافس، فإن النجف تكون في موقف قوي، مشيراً إلى أن النجف كنموذج للمدينة الدينية المقدسة للسلطة الدينية وقيادتها مستمرة منذ أكثر من 1000 عام أمام الاختبارات.
وفي حين قال التقرير إن السيستاني لم يكشف أبداً عن إيديولوجيته السياسية، وأنه من الصعب استنتاج ذلك من تعاليمه، إلا أنه وفقاً لممثل للسيستاني، فإن "موقف السيستاني تجاه السلطة يمكن فهمه بشكل أفضل من خلال ممارساته، وليس من خلال نظرياته القانونية".
وأشار التقرير إلى أن بعض رجال الدين يرون أن دور المرجعية في الشؤون السياسية يشبه دور الطبيب، أو التدخل في لحظات الأزمات، أو القيام بدور الأب الروحي عند الحاجة.
وتابع أنه خلال عامي 2003 و2004، قال السيستاني مراراً أن شكل الحكم في العراق يجب أن يحدده الشعب العراقي، ما يعني أن وجهة نظره هي أن إرادة الشعب وسيادته هما مصدر شرعية النظام السياسي.
وأوضح التقرير أن هذه الركيزة من سيادة الشعب في نظرية السيستاني السياسية للعراق هي ما أطلق عليه العديد من الكتاب "ولاية الأمة"، أو "سلطة الشعب"، التي هي على النقيض من ولاية الفقيه، أو بشكل أكثر دقة، هي "إرادة الأمة" التي تؤكد على حق الشعب وسلطته في اختيار نظام الحكم الذي يراه مناسباً لظروفه.
وذكرّ التقرير بأن السيستاني قال رداً على سؤال في آب/ أغسطس 2003 عن نوع النظام السياسي الذي يراه مناسباً للعراق، حيث أجاب "نظام يتبنى مبدأ الشورى والتعددية واحترام حقوق جميع المواطنين".
ورأى التقرير أنه من المثير للاهتمام أن السيستاني لم يستخدم أبداً مصطلحات "الديمقراطية" أو "العلمانية" أو "الدولة المدنية"، لأنها لا تتوافق مع لغة وتقاليد الفقه الشيعي، على الرغم من أن الديمقراطية والحقوق المدنية مذكورة بشكل بارز في الدستور الذي يدعمه السيستاني.
وأضاف أن آراء السيستاني في هذه الأمور لا تعني أنه ليبرالي ويؤيد الحريات القصوى التي لا تتماشى مع القيم الإسلامية.
أما بالنسبة لدور الإسلام، فيقول التقرير إن السيستاني لا يدعو إلى نظام سياسي إسلامي، وأنما إلى حكومة تحترم المبادئ والقيم الإسلامية، وهو ما يعني عادة حكومة لا تخالف الشريعة الإسلامية.
وأشار التقرير إلى أن تأثير السيستاني على العراق لا يحظى بالتقدير الكافي، وأن جهوده لمنع العراق من الانهيار التام تستحق المزيد من التقدير.
نموذج السيستاني
ولفت التقرير إلى أن محطات مهمة في تاريخ العراق تحمل بصمات السيستاني، مثل معارضته للخطة الأمريكية لفرض حكومة ودستور على العراق، ودفعه لإجراء انتخابات في أقرب وقت ممكن حتى يتمكن العراقيون من تحديد مستقبلهم، ورفضه الموافقة على الأعمال الانتقامية في الحرب الطائفية عام 2006، وفتواه لحث المتطوعين على القتال ضد تنظيم داعش في العام 2014، بالإضافة إلى دعواته لإقالة رؤساء الحكومات الذين فقدوا ثقة الناس بسبب الحكم الضعيف والفاسد.
وخلص التقرير إلى القول إن السيتساني خلق نموذجاً لما ينبغي أن يكون عليه المرجع، وهي:
1-تجنب المشاركة الرسمية في السياسة.
2-ضمان أن سيادة الشعب العراقي لها أهمية كبرى وأن يتم التعبير عن رغباته بحرية.
3-تقديم التوجيه للسياسيين ولكن عدم التحالف مع أي منهم.
4-الحفاظ على قوة وهيبة المرجعية من خلال السيطرة على العتبات والحوزات العلمية وعدم التدخل في كل قضية عامة.
5-العمل كقائد لجميع العراقيين ولجميع مصالحهم بغض النظر عن الدين أو العرق.
6-عدم التدخل في السياسة إلا عندما تكون "بنية المجتمع" مهددة أو لمعالجة أخطر القضايا التي تواجهها الدولة.
وذكر التقرير أن السيستاني لعب دوراً محورياً في منع العراق من الانهيار الكامل في الفوضى الشاملة أو الحرب الأهلية، مضيفاً أن السيستاني برغم محاولاته الحد من نفوذهما في العراق، إلا أن الولايات المتحدة وإيران سعيدتان بوجوده هناك، بسبب الاستقرار الذي يوفره، وتشعران بالقلق بشأن ما سيحدث بعد رحيله.
كاريزما السيستاني
وبعدما تساءل التقرير أنه عندما يرحل السيستاني، هل سيكون هناك انتقال سلس إلى خليفة له، أم أن الوضع أكثر تعقيداً؟، قال إن "مكانة السيستاني عظيمة لدرجة أنه يكاد يكون من المستحيل تصور بديلاً له"، مضيفاً أنه من المحتمل أن تحاول الدولة الإيرانية انتزاع الزعامة من النجف وتقديم خامنئي أو خليفته، كزعيم للمسلمين الشيعة على مستوى العالم، بما في ذلك المسلمين الشيعة في العراق.
وختم التقرير بالقول إن مسألة ما إذا كان بإمكان المرجعية أن تنتقل إلى قم هي محل نقاش، مضيفاً أنها ستبقى في النجف، على الرغم من أنه بعد وفاة السيستاني، قد يكون هناك عدد أكبر من المرجعيات العليا في إيران مقارنة بالنجف، إلا أن النجف كانت تاريخياً مقراً للسلطة الدينية الشيعية عبر التاريخ.
واعتبر التقرير أنه حتى لو لم تظهر مرجعية عليا في النجف، فإن السلطة الدينية على شيعة العراق لا يمكن أن يكون منبعها من إيران، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالشؤون السياسية وإدارة الأضرحة والحوزة العلمية.
وخلص إلى القول إن "النموذج السيستاني"، هو دليل مهم للغاية لأي مرجع مستقبلي في النجف، ويضمن أن يكون لخلفائه طريق واضح يمكن من خلاله التنقل في دور الدين في السياسة.
وأضاف أنه قد لا يناسب إيران أن تكون النسخة العراقية من الإسلام الشيعي أكثر صعوداً، إلا أنه تظل الحقيقة أن السيستاني ومن يأتي بعده، على الأرجح، سيحتفظون بالنجف كعاصمة للشيعة، بدلاً من إيران ونموذجها للحكم الديني المباشر.
ترجمة وكالة شفق نيوز