شفق نيوز/ يقترب موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وتزداد الحاجة في العراق لاستكشاف التبدلات التي قد تطرأ على السياسة الاميركية التي لا يمكن التكهن بها بشكل دقيق من سنوات ترامب الأربع في الرئاسة ولا من سنوات بايدن الثماني عندما كان الى جانب الرئيس السابق باراك أوباما.
ومن الطبيعي ان يجد العراق نفسه حائراً، ذلك أنه منذ العام 2003، تناوب الديمقراطيون والجمهوريون على البيت الأبيض والكونغرس، ولم يكن بإمكان بغداد، مهما كان في السلطة وقتها في بغداد او واشنطن، بناء علاقة واضحة الملامح دائما، وكانت تتأثر بالتطورات العراقية الداخلية، والإقليمية ايضا، وبتحولات السياسات التي يتبعها الرئيس الساكن في البيت الابيض، من جورج بوش الى باراك اوباما الى دونالد ترامب.
ودائما ما كانت السياسات الاميركية، خاصة في مرحلة الحرب الباردة، ما تخضع الى استراتيجيات كبرى تتبع على مدى سنوات عديدة لتحقيق أهداف تخدم الصراع الدولي خاصة مع الاتحاد السوفياتي وقتها. لكن في السنوات التي تلت ذلك، بدت السياسة الأميركية خاضعة اكثر لمناكفات الحزبين الأميركيين، ولأهواء سيد البيت البيضاوي نفسه.
وبينما كانت النظرة الاميركية الى الشرق الأوسط ترتكز أساسا على سلامة الإمدادات النفطية من المنطقة الى الاسواق الاميركية في ظل الاعتماد الأميركي الكبير على موارد الطاقة هذه، الا ان ذلك تبدل على مر السنوات الماضية، حيث خف هذا الاعتماد بدرجة كبيرة، وصارت الولايات المتحدة من أكبر منتجي النفط في العالم، ووجدت العديد من الدول المصدرة البديلة، وازداد انتاجها من النفط الصخري، ما جعلها في حالة استرخاء نسبي في جوعها النفطي، وإعادة ترتيب أولوياتها.
وبحسب المراقبين وما أكدته الأحداث الاقليمية في العقود الماضية، فإن الثابت شبه الوحيد في السياسة الخارجية الاميركية تجاه الشرق الاوسط، كان إسرائيل وحمايتها. لا شيء يعلو فوق ذلك في الاهتمام الأميركي، سواء في البيت الأبيض او الكونغرس.
اما العراق فقد ظلت تتأرجح أهميته بحسب ما كان يطرأ من أحداث، سواء في "المرحلة الصدامية" او في ما بعد ال2003. واذا كان بالامكان العودة الى تلك السنة، فإن الخلاف بين ترامب وبايدن كان في الموقف من الغزو الاميركي، فبينما أيد بايدن هجوم جورج بوش، فان ترامب الذي لم يكن قد دخل عالم السياسة، فإنه انتقده وعارضه أكثر من مرة.
وبالمناسبة، فإن هذه النقطة هي من المسائل التي استخدمها ترامب والناشطون في حملته الرئاسية، للنيل من منافسهم الديمقراطي باعتباره كان من مؤيدي غزو العراق، وهي فكرة كما يبدو لم تعد تحظى الان بشعبية بين الأميركيين بعدما كلفت بلاد "العم سام" آلاف القتلى والجرحى، ثم جاء ترامب ليرسخ نقطة هجومية أساسية تتمثل في أن من سبقوه الى مواقع السلطة في أميركا، ورطوها في حروب شرق اوسطية بلا نهاية ولا طائل منها، وانه هو يحاول إصلاح الفوضى التي خلفوها وراءهم بما في ذلك اوباما وبايدن وهيلاري كلينتون.
المهم ان ترامب بقراره مؤخراً، تخفيض عدد الجنود الاميركيين يريد أن يبدو أمام الناخبين الاميركيين كمن يوفي بوعوده بانه سيخرج من الفوضى الشرق الاوسطية، ويحاول في الوقت نفسه أن يسحب هذه الورقة من بين يدي بايدن الذي سبق ان قال في الاسابيع الماضية، انه اذا انتخب رئيسا، فانه "سينفذ انسحابا لكنه سيحتفظ بوجود صغير للقوات الاميركية في العراق وأفغانستان ولكن المشكلة انه لا يزال يتعين علينا القلق بشأن الإرهاب وداعش".
ومما لا شك فيه، ان بايدن أكثر خبرة في معرفة الشؤون العراقية والكوردية من منافسه الجمهوري المتذمر من لاجدوى التدخل وبلا مكاسب اقتصادية تذكر.
ومن المعروف ان بايدن زار العراق نحو 24 مرة عندما كان نائبا لاوباما الذي كلفه بمتابعة ملف العراق وتنظيم مسار الانسحاب العسكري منه، وهو يحتفظ بعلاقات قديمة مع العديد من المسؤولين العراقيين والكورد خاصة مسعود بارزاني الذي تربطهما علاقة شخصية.
اما ترامب فتسجل له زيارة خاطفة وسرية قام بها الى قاعدة عين الاسد في الانبار قبل عامين لتهنئة الجنود الاميركيين باعياد رأس السنة الميلادية، ولم يلتق خلالها بالمسؤولين العراقيين، ما أثار وقتها الكثير من الضجة والانتقادات. لكنه حظي بمناسبة لقاء مع رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي في أغسطس/آب الماضي التي حاول خلالها أمام الإعلام الإيحاء بمتانة علاقاته مع ضيفه العراقي وإعجابه به وكانت مناسبة جديدة له للقول بانه يعتزم جدولة الخروج العسكري الاميركي خلال ثلاثة أعوام.
ومن البديهي ان هناك في العراق من يعتبر ان الخيار بين الرجلين هو بمثابة الاختبار بين "أهون الشرين". ذلك انه في غياب "رؤية" حقيقية للعراق واستراتيجية وتبرهن على نجاحها من جانب الرجلين، يصبح الترقب سيد الموقف بالنسبة الى العراقيين، سياسيين ومواطنين. ولعل النقطة الأكثر حساسية وسلبية في ان الرؤية المركزية للعراق خلال العقد الماضي، ظلت تنظر الى العراق بصفته ساحة لمواجهة النفوذ الاقليمي لايران، او للكباش معها، مع محاولات بدت متواضعة للتعامل معه خارج هذه الرؤية تماما.
وحتى في قرار تخفيض القوات الذي يتأرجح ما بين الايفاء بتعهدات انتخابية اميركية بين الرجلين، فإن العديد من المراقبين رأوا في الخطوة، مبادرة تكتيكية للحد من خطر الهجمات الصاروخية التي تنفذها جماعات موالية لايران على القواعد والمنشآت الاميركية في العراق، لكنها ايضا تؤكد تخبطا اميركيا معينا ذلك ان قرار اغتيال قاسم سليماني وابومهدي المهندس على ارض العراق في بداية العام 2020، لم يأخذ بالاعتبار بشكل كاف، ردود الفعل العسكرية والسياسية ايضا التي قد تترتب عليه عراقيا وأميركيا وايرانيا.
وبكل الاحوال، فان ترامب ينام ويصحو الان لا على كابوس العراق، وانما على الكابوس الصيني. ومضطر ترامب كما بايدن أيضا في الاخذ بالاعتبار استراتيجيات الامن القومي الاميركي التي أعدها البنتاغون خلال السنوات الماضية، والتي تعتبر ان الخطر الحقيقي على المصالح الاميركية العالمية لم يعد متحورا على الشرق الاوسط ولا العراق طبعا، وانما باتجاه اقصى الشرق، نحو الصين ثم نحو روسيا، ولهذا فان الأولويات العسكرية والمالية لوزارة الدفاع الاميركية راحت تنصب على التعامل مع هذه المخاطر المحتملة التالية من البلدين، وهي أيضا قضية انتخابية مهمة عبر عنها ترامب مؤخرا عندما قال للأميركيين انه اذا انتخب بايدين فسيتحتم عليكم تعلم اللغة الصينية!
وخلال 15 سنة أمضاها جو بايدن في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الاميركي، من بينها رئاسة اللجنة مرتين، اظهر بايدن اهتماما خاصا بالكورد، خصوصا في العراق، وما يدلل كما اشرنا الزيارات الـ24.
وكان بايدن يعتقد انه اذا لم تتمكن الولايات المتحدة من وضع فكرة الفيدرالية موضع على مسارها الصحيح، فلن يكون امامنا فرصة تذكر للتوصل الى تسوية سياسية في العراق، وهي تسوية، من دونها، لا فرصة للانسحاب من العراق بدون ان تترك واشنطن خلفها الفوضى.
اذا يمكن القول انه من المرجح، انه اذا اعيد انتخاب ترامب ان يستمر مسلسل تراجع اهتمام ترامب بالملف العراق في اطار تراجع اهتمامه الاقليمي الشامل بالمنطقة ما لم يخدم كما اشرنا، اسرائيل، او مبيعات الاسلحة والاموال العربية التي تضخ في الاقتصاد الاميركي.
اما اذا جاء بايدن، فانه قد يقوم بتفعيل خبرته العراقية في محاولة منه لوضع مقاربة أكثر شمولية لازمات العراق. ومن غير الواضح ما اذا يستعيد من جعبته اقتراحه المثير للجدل بتقسم السلطة في العراق فيدراليا والذي طرحه قبل نحو 15 سنة، على غرار تقسيم الحكم في البوسنة.
كما يعتقد ان مجيء بايدن، اقله كما وعد مؤخرا، سيعيد واشنطن الى التزاماتها النووية مع ايران التي انسحب منها ترامب قبل عامين في محاولة لاخضاع طهران لشروط اتفاق جديد. لكن بايدن قد يأخذ بعين الاعتبار ايضا ان عقوبات ترامب اضعفت فعلا الموقف الايراني الداخلي والاقليمي بما في ذلك في العراق نفسه، ما قد يغريه ذلك باستغلال الموقف لاشتراط عودة واشنطن الى الاتفاق النووي بتقديم طهران لتنازلات اضافية، وهذا هو المحك الاكثر خطورة.
ذلك ان ايران التي لا تخفي رغبتها بالخلاص من ترامب، تضع سقف توقعات عال من بايدن اذا فاز في الانتخابات، ومحاولته بالتالي فرض شروط جديدة على الايرانيين قد تدفعهم الى التشدد أكثر، او ابداء مرونة ديبلوماسية أكبر، وهذا هو امتحان أخر للعراق باعتباره احد احتمالات المساومة – او المواجهة - المحتملة بين الطرفين.
ولهذا، باختصار، فان حالة الترقب العراقي الحذر هي المرجحة الان.