شفق نيوز– بيروت/ طهران
بين دويّ التصعيد على الحدود الجنوبية، والتجاذبات السياسية داخل لبنان وخارجه، يتكرّس الواقع الراهن بوصفه جزءاً من صراع إقليمي مفتوح، تتقاطع فيه مشاريع "المقاومة الإسلامية" مع ما يُوصف بـ"محور الهيمنة الأمريكية–الإسرائيلية"، في وقت تتسارع فيه الضغوط الدولية، لا سيما الأمريكية، لنزع سلاح حزب الله وإعادة صياغة التوازنات داخل لبنان.
فبينما تصف طهران ما يجري بأنه محاولة لإعادة تشكيل خريطة الشرق الأوسط، يرى محللون لبنانيون أن العدوان الإسرائيلي المتواصل لا يهدد السيادة فقط، بل يُضاعف هشاشة الداخل اللبناني في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
ويجمع العديد من الخبراء والمراقبين على أن لبنان بات ساحة مركزية لصراع طويل الأمد، عنوانه "اللا حسم والاستنزاف"، في مشهد تتشابك فيه الجغرافيا السياسية بالتحولات الدولية.
عدوان مباشر
من بيروت، يصف مدير مركز الدراسات، وليد حدرج، الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الجنوب اللبناني بأنها "ليست مجرد تصعيد عسكري، بل عدوان فعلي يستهدف السيادة الوطنية، ويؤثر بشكل مباشر على الأمن الداخلي".
ويقول حدرج لوكالة شفق نيوز إن "الاستقرار في لبنان بات مرهوناً بالغارات والضغوط الخارجية، وسط أزمة اقتصادية متفاقمة تعود جذورها إلى ما قبل عام 2019، لكنها تزداد تعقيداً بفعل التوترات الإقليمية".
وفيما يخص الجدل حول سلاح المقاومة، يوضح أن "الانقسام السياسي في لبنان حول هذه المسألة عميق، لكنه لا يعكس بالضرورة الإجماع الشعبي"، مشيراً إلى أن "السلطة التنفيذية تميل إلى حصر السلاح بيد المؤسسات الشرعية، فيما يحاول مجلس النواب تجنّب المواجهة الداخلية حفاظاً على المؤسسات".
ويؤكد أن الدعم الإيراني لحزب الله "ليس طارئاً"، بل هو "امتداد طبيعي لعلاقة بدأت منذ عقود، وتعمّقت بعد الثورة الإيرانية"، مشيراً إلى أن هذا الدعم كان حاسماً في محطات مفصلية، أبرزها تحرير الجنوب في عام 2000، ومواجهة العدوان الإسرائيلي في عام 2006.
ويرفض حدرج ما يُشاع عن أن سلاح المقاومة يجرّ لبنان إلى الحروب، قائلاً: "الاعتداءات مصدرها إسرائيل. وما دام هناك احتلال، فإن سلاح المقاومة مشروع بموجب الأعراف والمواثيق الدولية".
حرب استنزاف
من جهته، يرى المحلل السياسي اللبناني غالب سرحان، أن التصعيد الإسرائيلي ليس جديداً، بل يُشكّل امتداداً لسياسات متواصلة منذ احتلال فلسطين عام 1948.
ويقول سرحان لوكالة شفق نيوز: "ما يجري على الحدود اليوم هو تصعيد من طرف واحد، فالمقاومة ملتزمة بالقرار 1701، فيما تتعمد إسرائيل خرقه بشكل يومي".
وبحسب سرحان، فإن إسرائيل حالياً "غير قادرة على خوض حرب كبرى، نظراً لانشغالها بجبهة غزة وتحديات داخلية وإقليمية أخرى"، ولذلك تتجه نحو "حرب استنزاف" ضد لبنان، بهدف إنهاك المقاومة والضغط على الداخل اللبناني.
ويوضح أن "الهدف الإسرائيلي هو فرض واقع جديد على الأرض من خلال خروقات محسوبة دون الانجرار إلى مواجهة شاملة"، مضيفاً أن "التوازنات الإقليمية الراهنة لا تسمح بانفجار كبير، وهو ما تدركه تل أبيب جيداً".
"المقاومة باقية"
من طهران، يحمّل الكاتب والمحلل السياسي علي أكبر برزنوني، إسرائيل مسؤولية التصعيد الأخير في جنوب لبنان، معتبراً أن "ما يجري هو استمرار لسياسات الكيان الصهيوني العدوانية، وعدم التزامه بوقف إطلاق النار الموقع في 27 تشرين الثاني/نوفمبر 2024".
ويقول برزنوني إن "إسرائيل تهدف إلى نزع سلاح المقاومة واحتلال المزيد من الأراضي اللبنانية، وهي ترى في حزب الله العقبة الرئيسية أمام تحقيق هذه الأهداف"، مشدداً على أن "المقاومة المسلحة ستستمر ما دام الاحتلال قائماً، وأي حديث عن نزع السلاح غير واقعي في ظل غياب تسوية شاملة".
ويتهم برزنوني واشنطن بالانحياز الكامل لصالح إسرائيل، مضيفاً: "الولايات المتحدة لا تسعى لتقريب وجهات النظر، بل تعمل على تفكيك المحاور التي تعارض مصالحها ومصالح إسرائيل"، كما يؤكد أن طهران "لن تسمح بالمساس بسلاح الحزب"، مشيراً إلى أن هذا السلاح يُمثل "خط الدفاع الأول" ضد الاحتلال.
معركة وجودية
وإذا كان الخطاب السياسي الإيراني يُجسّد تمسّكاً صلباً بالمقاومة، فإن مقاربات مراكز الدراسات في طهران تُضيء على أبعاد أوسع تتعلق بمعادلة الردع وتوازنات الإقليم.
وفي هذا السياق، يُوضح مدير مركز الرؤية الجديدة للدراسات والإعلام، مهدي عزيزي، أن "ما يحدث في جنوب لبنان ليس مجرد مواجهة حدودية، بل هو حلقة من صراع أشمل بين المقاومة الإسلامية ومحور أمريكي–إسرائيلي يعمل لإعادة رسم خريطة المنطقة".
ويعتبر عزيزي، في حديثه لوكالة شفق نيوز، أن التطورات في سوريا، ومحاولات حصار فصائل المقاومة في العراق ولبنان، تأتي ضمن خطة إقليمية تهدف إلى ضرب ما تبقى من "محور المقاومة"، مضيفا أن "إيران تتابع هذا التصعيد بقلق، وتدرك أن أي استهداف لحزب الله هو استهداف مباشر لاستراتيجيتها الدفاعية في المنطقة".
وفيما يتعلق بالضغوط الرامية إلى نزع سلاح حزب الله، يشدد على أن "هذا السلاح ليس ورقة لبنانية فقط، بل ذراع استراتيجية للجمهورية الإسلامية، وجزء من معادلة الردع ضد المشروع الإسرائيلي"، موضحاً أن طهران تتحرك دبلوماسياً لمواجهة هذه الضغوط، كما ظهر من خلال زيارة رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني إلى بيروت مؤخراً.
ورغم تصاعد التوتر، يستبعد عزيزي اندلاع حرب شاملة في المرحلة الحالية، مشيراً إلى أن "إسرائيل ليست في وضع يمكّنها من خوض مواجهة موسعة، والدور الإيراني في حال توسع الصراع سيبقى ضمن الدعم السياسي واللوجستي، دون تدخل عسكري مباشر".
أما بخصوص الوساطة الأمريكية، فيرأى أنها "فاقدة للحياد"، مؤكداً أن واشنطن تلعب دوراً نشطاً في دعم إسرائيل، وتسعى لإضعاف قوى المقاومة في لبنان والمنطقة.
صراع طويل الأمد
من بريطانيا، يقدّم أستاذ العلوم السياسية في جامعة إكستر، هيثم هادي، رؤية أوسع للصراع، مشيراً إلى أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من التوتر، وسط إعادة ترتيب أولويات القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
ويقول هادي لوكالة شفق نيوز إن واشنطن تحاول إنهاء مواجهتها مع روسيا في أوكرانيا، للتركيز على ملفات أكثر حساسية في الشرق الأوسط، وتحديداً إيران وفلسطين والعراق. ويضيف: "هذه المناطق تشكل نقاط اشتعال مرشحة للانفجار، نظراً لأهميتها الاستراتيجية وموقعها الجغرافي الحيوي".
ويرى هادي، أن الصراع في المنطقة لن يُحسم بسهولة، مؤكداً: "لا إيران تمتلك القدرة على فرض الهيمنة الكاملة، ولا إسرائيل قادرة على السيطرة الحاسمة. ما نشهده هو تبادل لأدوات الضغط، بين الدعم الأمريكي لتل أبيب، واعتماد طهران على شبكات مسلحة وصواريخ دقيقة وطائرات مسيّرة".
ويضيف أن "لبنان والعراق تحوّلا إلى ساحتين مركزيتين للمواجهة، ومرشحتين لمزيد من الانخراط في هذا الصراع، الذي لن يكون قصيراً أو محدوداً، بل حرب استنزاف طويلة الأمد تُدار بأساليب غير تقليدية، وقد تنخرط فيها قوى دولية بشكل غير مباشر"، محذراً من أن استمرار هذا النمط "سيؤدي إلى إنهاك اقتصادي وسياسي كبير، يدفع ثمنه المواطنون العاديون، في وقت تغيب فيه أي مشاريع واقعية لتسوية شاملة".
وفي ظل ما يشهده الجنوب اللبناني من تصعيد ميداني، يبدو أن المواجهة تتجاوز الحسابات اللبنانية الداخلية لتتداخل مع تحولات إقليمية ودولية أكبر، فبين أطراف ترى في سلاح المقاومة ضرورة أمنية واستراتيجية، وأخرى تعتبره عقبة أمام بناء دولة سيادية، يبقى لبنان معلّقاً على حافة صراع مفتوح، لا يملك وحده مفاتيح خروجه.