شفق نيوز/ دعا "معهد داون" الذي يتخذ من العاصمة الاميركية واشنطن مقرا له، الى الخروج من "النظرة الضيقة" السائدة في الغرب إزاء العراق والنجف تحديدا، وعلاقتها الدينية بإيران، مشيراً الى نقاط خلاف وتلاقي بين المرجعين الشيعيين الكبيرين علي السيستاني وعلي الخامنئي.
وبداية قال التقرير الأمريكي الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، إن "الحرب التي تشنها إسرائيل في غزة تساهم في تأجيج المزيد من الصراعات في انحاء الشرق الاوسط كافة، خصوصا بعدما أصبحت "حرب الظل" الطويلة بين اسرائيل وايران في مرحلة العلانية، وهو ما يشكل تهديدا بوقوع تصعيد إقليمي اوسع نطاقا".
وأضاف، "بعد الغارة الإسرائيلية على القنصلية الايرانية في دمشق، والذي قاد الى الانتقام الايراني المباشر الاول من نوعه ضد اسرائيل، فان هناك مخاوف من حدوث دورة متواصلة من التصعيد، حيث تقف اسرائيل والولايات المتحدة من جهة، وتقف في الناحية الاخرى، ايران والجماعات المسلحة المختلفة التي تدعمها، من حزب الله في لبنان الى القوى شبه العسكرية في العراق".
وبحسب التقرير، فإن "هذه الهجمات الانتقامية ادت الى احياء الفهم الطائفي للمنطقة، والذي يتمحور حول الوصف المبسط المتمثل بمصطلح "الجماعات الشيعية المدعومة من ايران".
إرث الاستعمار والتدخل الأجنبي
واعتبر التقرير ان "هذا التأطير يتجاهل الأسباب الهيكلية للصراع في الشرق الاوسط فحسب، كإرث الاستعمار والتدخل الاجنبي، ويتجاهل ايضا التعقيدات الدينية في المنطقة".
واوضح التقرير فكرته قائلا إنه "من خلال الافتراض ان الجماعات يتم توصيفها حسب طائفتها، فإن ذلك يخلق المفهوم بانها مدفوعة بالايديولوجية والهوية، مما ينتقص من أهمية دوافعها الامنية والاستراتيجية الاساسية".
وعلى سبيل التوضيح، قال التقرير إنه "من اجل فهم جذور حزب الله باعتباره ميليشيا تحارب الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان، بدعم من الحرس الثوري الايراني، فان الهوية الدينية لجنوب لبنان باعتباره ذات اغلبية شيعية يتحتم ان تكون ثانوية مقابل فكرة حقيقية بان جنوب لبنان يقع على حدود اسرائيل، التي احتلته لمدة 17 عاما وكان لها تاريخ سابق في التوسع الاقليمي".
وبرغم ذلك، قال التقرير إن "هذا هو التأطير الديني الشائع في الخطاب الاعلامي حول حزب الله وغيره من الجماعات المسلحة الشيعية".
واعتبر المعهد الامريكي ان خطورة هذا التأطير تتمثل في انه يشكل تعميما على مجتمع ديني يتسم بانه كبير ومتعدد المكونات". وبالاضافة الى ذلك، فان هذا التأطير يتجاهل حقيقة ان دعم القضية الفلسطينية هو قضية عابرة للطوائف، وليست مجرد ورقة بسيطة تلعبها ايران من خلال وكلائها وحلفائها.
ولفت التقرير الى ان هذه النظرة الضيقة للسعي الى فهم التطورات الاقليمية من خلال الدين بالدرجة الاولى، ليست جديدة. وذكر التقرير بالمفكر الفلسطيني-الامريكي ادوارد سعيد الذي من خلال كتابه "تغطية الاسلام"، انتقد لجوء وسائل الاعلام الامريكية الى تفضيل الاشارة الى الهوية الدينية للجماعات بدلا من الاعتراف بان النزاعات المختلفة متجذرة في صراعات السلطة الدنيوية التي لا تتطلب عدسة دينية لرؤيتها وتفسيرها.
وتابع التقرير ان "مثل هذه النظرة المغلوطة تنطبق بشكل خاص على الطريقة التي تعاملت بها وسائل الاعلام الامريكية وصناع القرار في الولايات المتحدة مع العراق، الذي وصفه بانه بلد كبير ومتنوع ولكنه مع ذلك جرى تقزيم النظرة اليه على انه بعلاقة ذات بعد واحد مع ايران".
ودعا التقرير الى "تصحيح هذا التبسيط، مشيرا الى الجوانب العديدة للعلاقة بين العراق وايران، من الامن والسياسة والاقتصاد".
ولفت التقرير الى ان "للعراق ايضا نفوذ وسلطة على ايران، مضيفا ان المؤسسات السياسية العراقية لم تمنح امتيازات للمصالح الايرانية في كافة المجالات، وأنه حتى الشخصيات الاسلامية الشيعية ترددت في دعمها لايران.
وتابع التقرير انه حتى وفي الميدان الاقتصادي، فان العراق يتمتع بنفوذ على ايران حيث يتم تقييد وصولها الى الشبكات المالية العالمية باطار العقوبات الامريكية.
ولفت الى العلاقة بين المؤسسات الدينية الشيعية، وخصوصا بين المعاهد العلمية في كلا الدولتين والتي تشكل ركائز للمذهب الشيعي، موضحا انه في العديد من الحالات يتم وصف هذه العلاقة بشكل خاطئ على انها سياسية وان ايران هي المهيمنة فيها. ومع ذلك، حتى داخل إيران، فإن وجود رجال الدين والمؤسسات الدينية المنشقين وغير السياسيين يكذبه.
وانتقد التقرير التصوير الاعلامي للنظام السياسي الايراني باعتباره نظاما دينيا يديره "آيات الله" و"الملالي" بشكل كاريكاتوري.
وتابع قائلا إن مثل هذا التأطير ينفي في الوقت نفسه وجود مؤسسة دينية شيعية عراقية مستقلة، تتمتع بسلطة اخلاقية واسعة ليس فقط داخل العراق ولكنها ايضا خارج حدود العراق.
وتناول التقرير تداخل الروابط الدينية بين العراق وايران والتي وصفها بانها غنية ومعقدة بين رجال الدين الشيعة والمعاهد الدينية والشعوب منذ قرون، مذكرا بان الحجاج كانوا منذ مئات السنين، يتوافدون من الاماكن المقدسة في النجف وكربلاء في العراق، نحو قم ومشهد في ايران، وان رجال الدين اقاموا معاهد شيعية مهمة في تلك المدن المقدسة، وكانوا يتنقلون فيما بينها حيث صارت التواريخ والثقافات الدينية تتشابك فيما بينها.
وفي هذا الاطار، اشار الى ان "العالم الفارسي عبدالقادر الجيلاني، وهو نشأ في العصور الوسطى، ويعتبر المؤسس لمدرسة صوفية بارزة، مدفون في وسط بغداد، في حين ان الخليفة العباسي هارون الرشيد، وهو اشهر حاكم في بغداد، مدفون في ضريح الامام الشيعي الثامن علي الرضا في مدينة مشهد الايرانية".
السيستاني والخامنئي
وبالاضافة الى ذلك، قال التقرير، إن "الحوزة العلمية الابرز في العراق، التي تأسست في القرن ال11، مقرها في النجف، وهي بقيادة آية الله العظمى علي السيستاني استقبلت آلاف رجال الدين الايرانيين، بما في ذلك آية الله الخميني نفسه بين عامي 1965 و1978. وتابع التقرير ان الحوزة العلمية في قم هي ايضا بمثابة ملجأ للعديد من رجال الدين العراقيين، وخاصة الذين سعوا للفرار امام الاضطهاد البعثي خلال عهد صدام حسين في الثمانينات والتسعينات.
ولفت التقرير الى انه برغم هذا التبادل والحركة بين الحوزتين، فان هويتهما الفكرية المميزة داخل المذهب الشيعي، بقيت ظلت راسخة.
الى جانب ذلك، قال التقرير، إن الحوزة العلمية في النجف كانت دائما مختلطة عرقيا وقوميا، وهو ما بدا اكثر بروزا بعد الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، مشيرا الى ان المكون العرقي الابرز في الحوزة، الى جانب العرب، هم من الفرس.
وتابع قائلا ان غالبية زعماء المؤسسة الدينية في العراق كانوا من الفرس عرقيا، بما في ذلك آية الله العظمى السيستاني، الذي وصفه العديد من العلماء بأنه "وطني" للعراق ومؤيد للديمقراطية.
ورأى التقرير ان ذلك يظهر القوة المؤسسية للحوزة العلمية في النجف، والتي تعززها الخلفيات العرقية والوطنية المختلفة لاعضائها. وبعدما قال التقرير ان تأثير المؤسسة الدينية على اتباعها في العراق، برغم من تراجعه، الا انه شهد استقرارا في السنوات الاخيرة، مضيفا انه فيما يتعلق بايران، فإن الحالة اكثر تعقيدا، حيث دمج نظام ما بعد ثورة العام 1979، بين الدين والسياسة بشكل واضح، في حين ان ذلك لم يكن الحال في في عراق ما بعد العام 2003، على الرغم من الدور الذي لعبه آية الله العظمى السيستاني في عملية الانتقال السياسي في مرحلة ما بعد صدام في ظل الاحتلال الامريكي.
وتابع التقرير ان المؤهلات الدينية للمرشد الأعلى علي خامنئي كانت دائما هدفا متكررا للانتقادات بين رجال الدين الشيعة في الماضي، حيث اعتبر العديد من كبار العلماء أنه لم يخلف الامام الخميني لسوى لاسباب سياسية واستراتيجية، مشيراً إلى تعلمه على يد الراحل آية الله محمود الشاهرودي.
وذكر التقرير باستطلاع للرأي اجري في العام 2016 للحجاج الشيعة من العراق وايران، حيث تبين ان الغالبية العظمى من العراقيين تقلد السيستاني وان معظم الايرانيين يقلدون خامنئي.
وتابع ان التأثير الديني لتواصل خامنئي مع اتباعه الشيعة مبالغ فيه ومختلط مع سلطته السياسية. ورأى ان نفوذ ايران على المؤسسة الدينية في العراق لها حدودها الواضحة، مشيرا الى ان طهران سعت الى تشكيل خلافة السيستاني لصالحها، ولكن دون جدوى، حيث كانت القيادة الايرانية تروج للراحل آية الله الشاهرودي لسنوات عديدة كبديل للسيستاني الذي رفض في العام 2018 استقباله.
وتابع قائلا ان التقاليد المتعارف عليها هي ان يكون للسيستاني الدور الاساسي في التلميح الى خليفته. وقال التقرير انها ليست المرة الاولى، ولن تكون الاخيرة، التي تحاول فيها اطراف خارجية التأثير على القيادة الدينية في النجف، حيث ان نظام صدام حسين حاول اعداد خليفة "عربي" لآية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، الذي توفي العام 1992، لكنه فشل في تحقيق ذلك. وذكر التقرير انه في بعض الاحيان كان رجال الدين المنشقون والمنظمات غير الحكومية الإيرانية كانوا يناشدون السيستاني اتخاذ موقف ضد خامنئي، وكانت اخر مرة خلال التظاهرات المعارضة للحكومة التي اجتاحت ايران في العام 2022.
واضاف انه في حال كانت هذه التقارير صحيحة، فانها ليست مفاجئة، خصوصا ان الخميني نفسه لم يتمتع بالدعم الكامل من رجال الدين في ايران.
القضية الفلسطينية
وبرغم كل ذلك، قال التقرير ان هناك قضايا سياسية مثل فلسطين يلتقي فيها رجال الدين من البلدين. واشار في هذا الاطار، الى الرسائل المتبادلة في العام 1979 بين آية الله الخميني وآية الله محمد باقر الصدر الذي أعدمه نظام صدام حسين في العام 1980، والتي اعرب فيها الرجلان عن الغضب ازاء الاحتلال الاسرائيلي.
كما انه عندما زار البابا فرانسيس العراق في مارس/اذار 2021، فقد اعرب السيد السيستاني عن قلقه ازاء "الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة".
وختم التقرير بالقول ان الحوزات في النجف وقم تعكس مدى العلاقات المعقدة بين العراق وايران. واوضح "هذان المركزان للاهوت الشيعي ليسا طرفين عدائيين ولا منافسين سياسيين، بل متنافسان فكريا، ولهما مصالح سياسية مختلفة".
واوضح قائلا انه على غرار العلاقات الاوسع بين العراق وايران، فان قضية فلسطين هي مسألة للتلاقي بين هاتين المؤسستين الدينيتين، وليست مرتبطة بالنفوذ الإيراني، تماما مثلما هو الحال بالنسبة الى ان فلسطين هي مسألة اصطفاف وتلاقي للعديد من المكونات والحركات والجماعات في كافة انحاء الشرق الاوسط، بهويات دينية وعرقية وسياسية مختلفة، مضيفا ان ما يوحدهم هو تعاطفهم العميق وتضامنهم مع معاناة الفلسطينيين.
وخلص الى القول ان دعم فلسطين، سواء في العراق او لبنان أو اي مكان اخر، لا ينبغي ان يجري فهمه في الاطار الديني، لان هذه القضية هي عابرة للطوائف تربط بين مختلف القوى الفاعلة في كافة انحاء المنطقة.
واعتبر التقرير انه قد يكون من الملائم استخدام مصطلح مدعومة من ايران او شيعية (او كليهما) على الجماعات المختلفة التي تعلن الدفاع عن القضية الفلسطينية، الا ان ها التوصيف ليس صحيحا ولا يعكس الصورة الاشمل.
وتابع قائلا ان العلاقة المعقدة بين المؤسسات الدينية الشيعية في العراق وايران، تؤكد ذلك.