شفق نيوز/ تحولت مناطق جنوب شرقي العاصمة بغداد بما يحيط مدينة بسماية الحديثة إلى بحر من التلوث، حيث غطت النفايات والمواد الكيميائية والملوثة حزامها، وتسللت إلى مياهها مما أثار مخاوف جدية بشأن صحة السكان والبيئة.
ويعاني العراق بالمجمل من ارتفاع معدلات التلوث البيئي، ومخاطر الجفاف والتصحر، أنتجتها عقود من الصراعات التي دمرت بناه التحتية، ويعيشها بشكل يومي.
سامر محمد (37 عاماً)، أحد سكان مجمع بسماية السكني، يقول انه تخلى عن استخدام مياه الصرف الصحي لـ"عدم صلاحيتها للاستهلاك البشري، وتسببها ايضاً بأمراض جلدية، مما دفع السكان الى استخدام الماء المعقم المعروفة باسم (R O)، مقابل مادي، الأمر الذي تسبب بعبء على كاهلهم".
"ليس هذا فحسب"، كما يقول عامر ابراهيم (46 عاماً) أحد سكنة بسماية ايضا، وهو يطالع السماء، "ففي أحيان كثيرة نرى الجو مغبراً مع وجود روائح كبريتية لا نستطيع التخلص منها، وتبين بعد ذلك انها ناتجة من دخان معامل الطابوق والاسفلت (غير القانونية) التي تحاصرنا".
كلام الرجل الأربعيني وثقه مرصد "العراق الأخضر" المعني بالبيئة، على مدار العام الماضي 2023 كما أوضح أن "شكاوى عديدة من أهالي مجمع بسماية السكني، الذي يقطنه نحو 100 ألف نسمة، عن وجود تلوث بيئي في المجمع السكني بسبب وجود معامل الطابوق والإسفلت القريبة منهم وتحديداً دخان هذه المعامل الواقعة في قرية 10، وكذلك في جرف النداف ضمن قضاء المدائن (جنوب شرقي بغداد)، وسجلها راصدوه".
وأضاف المرصد، أن "هذه المعامل مستمرة بعملها رغم مخالفتها لتعليمات وزارة البيئة وأيضاً للمنهاج الوزاري للحكومة، كما أن مؤشر الجودة العالمي ذكر هذا التلوث ضمن قياس هواء العاصمة التي تراجعت الى المرتبة 124 بين دول العالم".
وبحسب عضو مرصد العراق الأخضر، عمر عبد اللطيف، فإن هذه "المعامل لا تزال تواصل أعمالها على قدم وساق دون مراعاة للشروط البيئية، موضحا أنها تطرح “ثاني أوكسيد الكبريت واكاسيد النيتروجين، ما يزيد من تلوث الهواء العاصمة بصورة كبيرة ويخلق أضرارا مضاعفة".
وتعتمد هذه المعامل "غير القانونية" على الوقود الأحفوري في عملها، مع تشغيل عدد من العمال لساعات مطولة فوق المعتاد.
نهر "قاتل"
وعلى طريق المرور المؤدي إلى المدينة الجديدة، يشكو سكان منطقة جسر ديالى، جنوب شرقي بغداد، من النهر الذي يمر بمنطقتهم والذي تحوّل إلى "مجرى للمياه الثقيلة" وبات مصدراً للأمراض لعدم صلاحيته للاستخدامات البشرية والزراعية والحيوانية، مبدين استغرابهم من عدم تفاعل الجهات المعنية عن الواقع الحالي.
ويصبُ "النهر القاتل" المكون من مياهٍ آسنة، في نهرِ دجلة، وتحول من مصدرٍ للشرب والزراعة وصيد الأسماك وتربية المواشي الى مكبٍ للنفايات، ومصدر لتلوثٍ بيئي خطير يُهدد حياة ما يقرب 200 ألف إنسان.
والمفارقة- بحسب مسؤولين محليين- أن "السكان ليسوا مذنبين برمي المخلفات والنفايات في النهر، بل المؤسسات الحكومية هي التي تقوم بذلك، إذ تقوم آلياتٌ تابعة لمديرية العاصمة بغداد بنقل ورمي مخلفات الصرف الصحي في نهر ديالى، وذلك بسبب خروج العديد من محطات معالجة المياه الثقيلة ومياه الصرف الصحي عن الخدمة وتهالكها، وعدم توفر محطات معالجة حديثة كافية لتغطية الزخم المتزايد".
سكان محليون قالوا خلال حديثهم لوكالة شفق نيوز، إن "مياه نهر ديالى أصبحت ملوثة بنسبة 100٪، بل ان هذا النهر يعد أحد مسببات مرض الكوليرا الذي ينتشر في هذه المناطق بشكل كبير وخطير، كما أن لون المياه تحول إلى الأخضر ورائحتها كريهة".
أما المزارعون فقد بينوا للوكالة، أن "الزراعة في المنطقة لم تعد تعتمد على مياه هذا النهر شبه الجاف والملوثة، وإنما لجأوا لطرق بديلة منها استخدام الآبار لسقي مزروعاتهم".
وكان محافظ بغداد السابق وجه بتنفيذ جسرين إضافيين فوق النهر "الملوث" واللذين تم افتتاحهما لاحقاً، لتخفيف الزحام الحاصل على جسر ديالى الوحيد بعد إنشاء مدينة بسماية وتزايد عدد العجلات التي تمر عبره، من دون وضع حلول لمشكلة النهر الذي تنبعث منه رائحة المياه الثقيلة وتسببه بأضرار على المارة والساكنين بقربه.
وفي 9 كانون الأول 2023 اعلنت اليونيسف عن افتتاح ثماني محطات لمعالجة مياه الصرف الصحي في مدينة الطب في بغداد يستفيد منها أكثر من 3.5 مليون شخص في بغداد، فيما بينت أنه كان يتم تصريف وإلقاء أكثر من 2300 متر مكعب من مياه الصرف غير المعالجة في نهر دجلة يومياً، مما يزيد من تدهور الموارد الطبيعية وتعرض السكان والأطفال الى مخاطر صحية جمة.
أنقاض ونفايات
وتشهد بغداد ارتفاعاً في نسب التلوث عموماً، إذ دخلت ضمن قائمة المدن الأكثر تأثراً بالتغيرات المناخية حول العالم، وفقاً لتقارير وإحصاءات مختلفة.
ومع انتشار مواقع الطمر العشوائية قرب الأحياء السكينة، ما حوّلها إلى مستنقعات ملوثة، فإن ما ينتج يوميا يصل الى نحو 14 ألف طن من النفايات يوميا تتوزع بين 4 آلاف طن ينتجها المواطنون و10 آلاف أخرى تنتجها شركات ومصانع وقطاعات أخرى، بحسب مسؤولين في وزارة البيئة.
واطلعت وكالة شفق نيوز، على أحد أماكن طمر النفايات ورمي الأنقاض في منطقة الرستمية القريبة من بسماية، والتي تسبب تلوثاً بكتيرياً وجرثومياً من خلال تسربها إلى المياه عن طريق التربة.
وتشدد المعايير الدولية لطمر النفايات والانقاض على ضرورة تخصيص أماكن بعيدة عن المناطق السكنية، ووضع أساسات من الاسمنت لمنع تسرب الجراثيم والملوثات إلى التربة ومياه الشرب.
وشدد خبراء في المجال البيئي، على أن "ترك النفايات لأيام وعلى شكل أكوام تولد بيئة ملوثة وتنتقل جراثيمها عبر البعوض والحشرات إلى جميع مناطق العاصمة بغداد".
ووفقاً لخبراء بيئة، فإن "90% من أسباب تلوث مناطق حزام بغداد يعود لانتشار مناطق طمر النفايات غير الصحية"، عازين التلوث الكبير لأسباب تتعلق بطمر النفايات بجميع مكوناتها العضوية وغير العضوية".
وتطمر النفايات في موقعين، الأول في منطقة النباعي شمالي العاصمة، والذي يستوعب نحو 7 آلاف طن يومياً، في حين يستوعب الموقع الثاني في النهروان جنوبي بغداد، نحو 3 آلاف طن يومياً.
وأشار الربيعي، إلى أن “آليات أمانة بغداد ترفع يومياً أكثر من 9 آلاف طن من النفايات من جميع المناطق والازقة في العاصمة".
موقف رسمي
وبالتزامن مع ذلك، سجل العراق ارتفاع نسب الأمراض السرطانية والجهاز التنفسي والباطنية، نتيجة ارتفاع الملوّثات في داخل المياه، وفق عضو لجنة الصحة والبيئة النيابية، باسم الغرابي في تصريح سابق لوكالة شفق نيوز.
ولفت الغرابي، إلى أن "التلوث تفاقم مع انخفاض مستوى المياه بصورة عامة وبسبب أزمة المناخ العالمية"، مؤكداً أن "نسب تلوّث المياه عام 2021 كانت أضعاف ما مسموح به، أما عامي 2022 و2023 فتدعي الجهات المعنية عدم امتلاكها نسبة عن التلوّث، بسبب قلّة الامكانيات وعدم وجود الأجهزة الخاصة بذلك".
وعزا كل من الغرابي والمتحدث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، تلوّث المياه إلى جملة أسباب منها "الصرف الصحي، إذ لا تعمل أغلب محطات المعالجة مع قلّتها بالكفاءة المطلوبة، فيما ترمي المؤسسات الحكومية كدوائر (المجاري، الكهرباء، الصحة، الصناعة، النفط)، حوالي 80 بالمائة من مخلفاتها في مياه الأنهر دون معالجة، فضلاً عن ملوّثات القطاع الخاص".
وأكد الجانبان اللذان تحدثا للوكالة، أن "هذا أدى إلى تسمم المياه وارتفاع الإصابة بالأمراض خصوصاً في المحافظات الجنوبية التي تكون مناسيب مياهها منخفضة نتيجة قلّة التصريف كـ(البصرة، الديوانية، بابل، واسط، المثنى، ميسان، ذي قار، وحتى في بغداد)".
من جهته، أشار الخبير المائي والبيئي، أحمد صالح، إلى أن "الحكومية اتخذت جُملة من الإجراءات لتدارك الأزمة المائية، منها الاتفاق مع إيران لفتح المياه على نهر الكارون، والاتفاق مع تركيا على إطلاقات الثلاثين يوماً ثم الاتفاقات البروتوكولية التي سينتجها اللقاء مع الرئيس التركي أردوغان خلال زيارته المرتقبة إلى العراق".
وخلص صالح، خلال حديثه للوكالة، إلى القول: "بناءً على ذلك، قد تتلاشى المخاطر البيئية المحدقة بهذا الموضوع وفق الرؤى الحكومية الجديدة".