شفق نيوز/ تترنح العملات النقدية لاربع دول إقليمية، هي تركيا، سوريا، لبنان وايران، تحت وطأة مجموعة من العناصر المتداخلة، في الداخل والخارج، وأثارت تساؤلات جدية خلال تراجعها المدوي في العام 2021، عما اذا كان بمقدورها الصمود او ربما التحسن قليلا في العام 2022 في ظل التعقيدات المتشابكة لاسبابها.
ويجازف هذا التزعزع النقدي للدول الأربع بتهديد استقرارها السياسي والاجتماعي بوضوح، والتي تثير في بعض الأحيان احتجاجات شعبية، ومخاوف من قدرة السلطات السياسية فيها على احتواء الازمة الاقتصادية او حتى قدرة هذه السلطة على البقاء، مع تفاقم التدهور المعيشي، وتضافر عوامل الضغوط الخارجية كالعقوبات، في خلق أوضاع لا توحي باستقرار مستقبلي.
الليرة التركية
تبدو تركيا حالة فريدة لفهم هذا المشهد المعقد، حيث شهدت الليرة تراجعا بأكثر من 45% مقابل الدولار منذ بداية 2021 العام، فيما كانت خسارتها الاكبر تسجلها بنسبة 30 % منذ نهاية تشرين الأول/أكتوبر الماضي وحده، بينما تخطت نسبة التضخم أكثر من 21%.
ويثار جدل واسع في تركيا وخارجها حول ما يجب القيام به لردع هذا التدهور، خاصة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تدخل مباشرة في الازمة الاقتصادية، مفضلا الابقاء على اسعار الفائدة منخفضة وفق قناعاته بان ارتفاعها سيعزز من أرباح الاثرياء وتزيد من معاناة الشرائح الفقيرة، ولهذا فإن البنك المركزي خفض أسعار الفائدة مؤخرا من 16 الى 15 في المئة، لتكون هذه المرة الثالثة التي يخفض فيها النسبة خلال هذا العام.
واثار انهيار الليرة وارتفاع معدلات التضخم احتجاجات شعبية في اسطنبول وانقرة، بعدما ارتفعت قيمة السلع، بما فيها الغذائية، بشكل هائل، مع انهيار قيمة الليرة التركية التي خسرت على سبيل المثال 18% في يوم واحد في 23 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. وفي محاولة لاحتواء المخاوف تقول السلطات التركية ان نسبة التضخم تبلغ 21%، لكن خبراء اقتصاديين ومعارضين يقولون ان السلطات تخفي الرقم الحقيقي وهو 58%.
ولم تعد رواتب الغالبية من الموظفين والعمال تكفيهم لسد رمقهم، بعدما فقدت معاشاتهم قدرتها الشرائية في ظل التضخم، في بلد يبلغ فيه الحد الادنى للاجور نحو 2800 ليرة تركية اي ما يعادل نحو 200 دولار فقط، علما بان الدولار كان يساوي ثماني ليرات قبل الازمة الحالية وتخطى حاليا ال 13 ليرة.
وبحسب تقديرات الخبراء الاقتصاديين، فإنه بسبب ارتفاع أسعار السلع وانهيار قيمة الرواتب، يلجأ العديد من المواطنين الأتراك الى محاولة شراء الدولار لضمان ما تبقى من قيمة للأموال بحوزتهم، كما يلجأ الى شراء الدولار التجار والصناعيون لضمان استمرارية أعمالهم وارباحهم، وهذا التهافت على الدولار، يعزز من فقدان الليرة لأهميتها وبالتالي من صعود قيمة الدولار.
وليس سرا القول ان الليرة التركية تتأثر أيضا بعوامل خارجية من بينها التوتر الحاد الذي أصاب العلاقات مع واشنطن، وايضا التنافس والصراع الإقليمي مع دول من بينها السعودية والامارات، والانخراط العسكري التركي في الشمال السوري والحرب الليبية، والخلافات مع الفرنسيين تحديدا، بالاضافة الى التورط في الحرب الاذرية-الارمينية والصراع على مصادر الطاقة في شرق المتوسط الذي كاد يتحول الى شرارة اقتتال مع اليونان والفرنسيين، وخلافات متفاقمة مع مصر.
ومن مفارقات ازمة الليرة التركية انها تركت تأثيراتها السلبية على المناطق الخاضع لسيطرة تركيا في الشمال السوري، حيث كانت السلطات المحلية الموالية لتركيا في تلك المناطق، بدأت باعتماد الليرة التركية في التعاملات المالية والحركة التجارية المرتبطة ارتباطا وثيقا بالعجلة الاقتصادية التركية، وساهم انهيار الليرة في الحاق ضرر كبير بمداخيل سكان تلك المناطق وقدرتهم المعيشية وارتفاع اسعار السلع، وذلك بعدما تخلوا عن اعتماد الليرة السورية، لصالح الليرة التركية.
الليرة السورية
للتدليل على حجم التدهور الذي أصاب الليرة، تكفي الإشارة إلى ان الدولار كان يعادل نحو 47 ليرة قبل نحو عشرة اعوام، اي مع بداية الحرب السورية التي انخرطت فيها قوى داخلية وخارجية، لكنه حاليا يعادل في السوق السوداء حوالى 3500 بعدما كان بلغ منذ عدة شهور اكثر من اربعة الاف ليرة.
وفقدت الدولة السورية مقومات بقائها اقتصاديا بعدما خرجت من تحت سيطرتها العديد من المدن والمحافظات الرئيسية وتعطلت عجلة الانتاج فيها، في ظل الحرب التي اندلعت منذ العام 2011، بين القوات الحكومية وفصائل معارضة مسلحة، هيمن عليها "الجهاديون" و"الارهابيون" في السنوات اللاحقة.
وما ان بدأت تتلاشى بشكل كبير نيران الحرب، في ظل مقاطعة دولية شبه شاملة للدولة السورية، مع استثناءات من روسيا والصين وإيران التي حافظت على دعمها لدمشق عسكريا واقتصاديا، حتى فرضت ادارة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب عقوبات "قانون قيصر" التي شددت الخناق على اي تعاملات مالية او اقتصادية مع دمشق، وحرمها من حركة الاموال والعلاقات التجارية الخارجية، واصاب في الصميم ايضا مشروعات اعادة الاعمار التي كانت قد بدأت تلوح في الافق، وكان يمكن لها ان تساهم في ضمان تدفق للعملات الاجنبية الى البلاد، وبالتالي توفير نوع معين من الحماية النقدية لليرة السورية.
وفي تطور لم يكن متوقعا، غرق لبنان اقتصاديا، وقطاعه المصرفي، في اسوا ازمة في تاريخه المعاصر، وكان من نتائجها احتجاز البنوك لحسابات المودعين، ثم فرض قيود مشددة على سحبها، خاصة تلك المفتوحة بالدولار، وهو ما شكل ضغطا إضافيا على الاقتصاد السوري وعلى الليرة السورية.
ولم يتفاجأ كثيرون عندما اعلن الرئيس السوري بشار الاسد في تموز/ يوليو الماضي، ان العائق الأكبر أمام الاستثمار في سوريا يتمثل في اموال السوريين المجمدة في البنوك اللبنانية المتعثرة، مشيرا الى ان التقديرات تتحدث عن ما بين 40 مليار دولار و60 مليار دولار من الأموال السورية المجمدة في لبنان، وهو ما "يكفي لإحباط اقتصاد بحجم اقتصادنا".
وفي محاولة للالتفاف على العقوبات وإجراءات المقاطعة الغربية التي فرضت على دمشق منذ بداية حربها الاهلية، شكلت العديد من الشركات الالتفافية، مستفيدة من النظام المصرفي اللبناني والحركة التجارية بين لبنان وسوريا، وذلك من اجل ان تسهل على نفسها تسديد ثمن البضائع المستوردة الى السوق السوري عن طريق المعابر البرية مع لبنان.
ولهذا، يقول الخبراء ان تعثر النظام المصرفي اللبناني، ساهم في توجيه ضربة في الصميم لليرة السورية التي كان لبنان بمثابة شريان حياة بالنسبة اليها، حيث تقدر الأمم المتحدة حجم الخسائر التي أصابت الاقتصاد السوري خلال عشرة اعوام، اكثر من 530 مليار دولار.
وكان من اللافت انه مع تعثر القطاع المصرفي في لبنان، راح الدولار يرتفع بقوة امام الليرة السورية وبلغت حدود ال5 الاف ليرة للمرة الاولى في تاريخ سوريا، قبل ان تفرض السلطات السورية اجراءات قمعية بحق المتلاعبين ببيع الدولار وشراءه، فتعاود الليرة تعافيها قليلا وتصل الى 3500 مقابل الدولار الولاحد.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الانهيار لليرة السورية، في ظل حالة لم يعدها السوريون من التضخم وغلاء الأسعار، ترك آثاره المدمرة على شرائح اجتماعية واسعة، وخاصة الاف العائلات التي يعتمد معيلوها على الرواتب الحكومية الثابتة، وتضررت قدرتهم على تأمين الغذاء ودفع فواتير الكهرباء والمولدات والحاجات الاساسية الاخرى.
وللتدليل على حجم الانهيار الذي اصاب ملايين السوريين، فان راتب الموظف كان قبل ازمة الانهيار الاخيرة المتدحرجة منذ العام الماضي، كان يبلغ مثلا نحو 30 الف ليرة بما يعادل 600 دولار، لكنه الان برغم ارتفاعه على 60 الف ليرة، لم تعد قيمته تعادل سوى حوالى 13 دولارا.
ومن الواضح بحسب الخبراء انه من دون تسوية اقليمية-دولية للحرب السورية، تعيد الحياة الى الاقتصاد السوري، سيكون من الصعب على الليرة الاستمرار في الصمود ووقف ترنحها، في بلد يقدر برنامج الاغذية العالمي التابع للامم المتحدة ان اكثر من 12 ملايين شخص فيه يعانون من الجوع، ويعيش 90% من السوريين تحت خط الفقر وتطال البطالة اكثر من 42%.
الليرة اللبنانية
ليس من وصف أكثر دلالة على المشهد اللبناني، التوصيف الذي استخدمه البنك الدولي حول لبنان عندما قال انه ما يعانيه منذ خريف العام 2019، يشكل "احد اسوأ ثلاث أزمات اقتصادية في العالم منذ 150 سنة".
ومنذ بداية العام 2020 تقريبا، بدأت الليرة تفقد قيمتها أمام الدولار حيث كانت تبلغ وقتها 1500 ليرة مقابل الدولار الواحدة، وتلامس اليوم 30 ألف ليرة وفق سعر الصرف في السوق السوداء، ما يشكل انهيارا لم يعهد اللبنانيون مثله من قبل.
وبينما حافظت الدولة على الحد الأدنى للأجور عند حوالى 700 الف ليرة عندما كانت تعادل نحو 500 دولار قبل الانهيار، فان الحد الادنى اصبح الان يعادل أقل من 30 دولارا، وذلك بالتزامن مع ازمة شح الدولار بينما امتنعت البنوك عن تسديد ودائع الدولار لاصحابها، الا وفق شروط مشددة وقاسية.
وبحسب الخبراء، فإن من بين الأسباب التي ساهمت في انهيار الليرة، البنك المركزي في محاولة منه لوقف التدهور الحاصل في القطاع المصرفي، طلب من البنوك في صيف العام 2020 رفع رأسمالها بنسبة 20% للسماح لها بمواصلة العمل بشكل اكثر استقرارا، وهو ما تطلب منها فرض اجراءات قاسية على المودعين واموالهم، لتتجنب الوقوع تحت قبضة سلطة البنك المركزي مباشرة اذا ظلت في تعثرها.
وبرأي الخبراء، فإن شبكة من المنافع المتبادلة بين البنك والسياسيين وشركات صرف الاموال، تواطأت ضمن شبكة آليات معقدة لامتصاص الدولارات من السوق وجيوب المواطنين، لتأمين مصالحها بما في ذلك قدرة البنوك على الاستمرار، وهو ما ساهم في تعزيز سعر الدولار من خلال الاقبال الهائل عليه، وبالتالي الى الانهيار التاريخي لليرة اللبنانية.
وبطبيعة الحال، هناك عوامل أخرى مهدت لهذا الانهيار وتدخل البنك المركزي بهذا الشكل المؤلم لمئات آلاف المودعين، فقد كان الاقتصاد اللبناني يعاني من ملامح هشاشة واضحة، متأثرة بتداعيات الحرب السورية والعقوبات على دمشق، وسوء ادارة الدولة والفساد والهدر الهائل في الموارد الضئيلة، وتعطل تدفق الاستثمارات العربية والغربية على البلد، بما في ذلك التأثيرات السلبية لاجراءات الاغلاق الناتجة عن وباء كورونا منذ العام 2020.
ويلفت الخبراء ايضا الى حقيقة ان لبنان يعتمد بنسبة تتخطى ال80% على استيراد كل ما يحتاجه من الخارج، وهو ما يمثل استنزافا لموارد الدولار طوال العقود الثلاثة الماضية التي تخطت قيمته الاجمالية عشرات مليارات الدولارات، فيما يفتقر البلد الى قيمة تصديرية تحقق توازنا ما مع حركة الاستيراد الطاغية في كل القطاعات الاستهلاكية.
كما ان الحركة الاحتجاجية التي انفجرت في خريف العام 2019، بالإضافة الى الحاقها الكثير من الضرر في عجلة الانتاج وتأمين الموارد للدولة من الضرائب والرسوم المختلفة بسبب الاغلاق وتعطيل مؤسسات الحكومة، اضعف بشكل هائل الثقة اللازمة لاي عملية من اجل الصمود في وجه الدولار، وساد إحساس عام بأن الأسوأ قادم، وان ملاذ المواطنين عموما يكون بتحويل مدخراتهم بالليرة الى الدولار لتقليص مستوى خسارتهم النقدية.
ومن بين الحقائق التي كان مؤشرا على سوء ادارة الازمة، وحجم الانهيار الحاصل، فان التقديرات الرسمية كانت تشير الى ان احتياطي لبنان من الدولار، بلغ قبل "ثورة 2019"، نحو 31 مليار دولار، لكنه تراجع في غضون أشهر الى 16 مليار دولار، فيما يقول معارضون ان العديد من رجال الدولة الكبار والاثرياء، قاموا بتهريب مليارات الدولارات من اموالهم من البنوك اللبنانية، الى الخارج.
عجل كل ذلك في التداعي المثير لليرة اللبنانية، فيما استغل التجار الكبار ازمة شح الدولار للتحكم في اسعار السلع المستوردة من الخارج، وقفز على سبيل المثال سعر علبة احد انواع السجائر من الف ليرة الى 14 ألف ليرة حاليا، وهو ما ينسحب على كل السلع والخدمات الأساسية والحيوية والادوية والوقود والكهرباء وغيرها.
ويكاد يتفق الخبراء الاقتصاديون انه من دون حكومة فاعلة تمتلك تصورا جريئا لمعالجة الانهيار الاقتصادي المعيشي المتشابك، لن يتمكن لبنان من استعادة الثقة بنظامه وبالتالي ثقة المستثمرين والجهات المانحة التي تطالب اولا بتطبيق اجراءات اصلاحية واسعة لاستئناف تقديمتها المالية.
التومان الايراني
كثيرا ما عانت العملة الوطنية الإيرانية من تقلبات كبيرة وغير مضبوطة خصوصا في السنوات الاخيرة مع تصاعد العقوبات الغربية، وتحديدا الامريكية، لا على الاقتصاد الايراني وحده، وانما على المئات من المؤسسات والشركات والاشخاص، في محاولة لاجبار طهران على تقديم تنازلات فيما يتعلق ببرنامجها النووي، ونفوذها الاقليمي.
وحاليا، يتراوح سعر صرف الدولار بحدود 31 الف تومان، وهو كثيرا ما يتراجع بنسب كبيرة، فعلى سبيل المثال، كان قبل نحو عام يعادل 32 الف تومان، لكنه تراجع بعد ذلك الى 22 الف تومان، بعدما اضطر البنك المركزي الايراني الى ضخ الكثير من عملية الدولار في الاسواق لكبح جماح الانهيار.
ولم تمض سوى شهور قليلة على تولي الرئيس الجديد ابراهيم رئيسي منصب الرئاسة وهو الذي تعهد كأولوية له، بمعالجة الازمات الاقتصادية، ووقف تدهور التومان امام الدولار. لكن الارقام تشير الى ان الدولار كان يعادل عند توليه منصبه، نحو 25 الف تومان، وهو بذلك سجل تراجعا بنحو 25%.
وترك انهيار قيمة التومان اثره القاسي على حياة ملايين الايرانيين الذين وجدوا كالاتراك والسوريين واللبنانيين، مدخراتهم المالية تتبخر امام اعينهم، فبدأوا باللجوء الى شراء الدولار، او العملات الذهبية والعقارات، لانقاذ ما يمكن انقاذه من اموالهم، وهو تهافت ساهم بطبيعة الحال ايضا، في تعزيز قيمة الدولار وتقويته.
تتشابهه وتتقاطع العناصر والعوامل التي تتسبب في انهيار العملات الوطنية لكل من تركيا وسوريا ولبنان وإيران، مع خصوصية كل حالة وفرادتها، لكن الجامع فيما بينها ان اقتصادات هذه الدول متداخلة وتتأثر ببعضها البعض وبالتطورات الاقليمية الجارية، وخاصة في الاضطرابات الامنية والعسكرية التي تحصل هنا وهناك، مثلما تتأثر ايضا بتطورات الملف النووي الايراني في فيينا، وما يجري في لياليها وكواليسها.
ويبقى هناك سؤال يتعلق بما اذا كان الانفراج الشامل في احدى تلك الدول سيترك تأثيرا مباشرا على الدول الثلاث الاخرى، وما هو مدى هذا التغيير إيجابيا. كما يظل من المهم الالتفات الى التأثيرات السياسية المحتملة لاستمرار النفق المظلم الذي دخلته الليرات التركية والسورية واللبنانية والتومان الإيراني، ومتى سينتهي، والاهم حصيلة كلفته النهائية.