شفق نيوز- أربيل/ السليمانية
بينما تنشغل القوى الشيعية والسنية في بغداد بمفاوضات ما بعد الانتخابات التشريعية التي جرت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2025، يبدو أن البيت الكوردي يدخل هذه الجولة الأهم منذ 2003 وهو في واحدة من أكثر لحظاته انقساماً وضعفاً، رغم أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني خرج من صناديق الاقتراع بأحد أفضل نتائجه على مستوى العراق.
في كوردستان اليوم لا تبدو الأزمة سياسية فقط، بل شبكة متشابكة من اختناقات تمتد من غرف التفاهم المغلقة بين الحزبين الرئيسيين إلى طوابير الموظفين والمتقاعدين على أبواب المصارف.
انقسام البيت الكوردي الذي تعمّق منذ التسعينيات تحوّل مع مرور الزمن إلى خلل بنيوي ارتد اقتصادياً واجتماعياً مع كل تجدد ازمة، ليدخل الكورد واحدة من أكثر الجولات حساسية منذ عام 2003 وهم في أضعف حالاتهم الداخلية.
النتائج الأخيرة أفرزت تقدماً واضحاً للحزب الديمقراطي بأكثر من 30 مقعداً (مضاف لها مقاعد متفرقة وكوتا) على غريمه الاتحاد الوطني الكوردستاني ب18 مقعداً، ورسخت انطباعاً لدى الديمقراطي بأنه الطرف الكوردي الأحق بالمطالبة بمنصب رئاسة الجمهورية، في محاولة لكسر العرف التقليدي الذي أبقى هذا الموقع في يد الاتحاد الوطني لعقدين تقريباً. وفي المقابل، يتمسك الاتحاد برصيده التاريخي في بغداد وبفكرة التوازن داخل الإقليم.
على الأرض، كرّست صناديق الاقتراع صورة الاستقطاب المعروفة. فقد حقق الديمقراطي فوزاً واسعاً في دهوك وأربيل وتقدماً لافتاً في بعض الدوائر المتنازع عليها، بينما حافظ الاتحاد على ثقله في السليمانية ومناطق أخرى. لكن هذا التوزع لم يتبلور في موقف سياسي واحد، بل دخل الحزبان إلى بغداد وهما منقسمان حول أهم ملف كوردي مطروح في العاصمة، وهو هوية مرشح رئاسة الجمهورية وكيفية استثمار الثقل الانتخابي الكوردي في رسم شكل الحكومة الاتحادية الجديدة.
من نتائج الصناديق إلى معركة الرئاسة
منذ أن جرى تثبيت معادلة تقاسم السلطة بعد عام 2003، ترسخ عرف سياسي غير مكتوب يقوم على أن تكون رئاسة الجمهورية من حصة الكورد، وأن تذهب غالباً إلى شخصية من الاتحاد الوطني الكوردستاني. ومع مرور السنوات، صنع هذا الترتيب رصيداً رمزياً وسياسياً للاتحاد في بغداد، ورسّخ داخلياً صورة لتوازن دقيق بين القوتين الكورديتين الرئيسيتين.
غير أن صعود الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة وتحوّله إلى القوة الكوردية الأولى بفارق مريح، دفع قياداته إلى إعادة طرح سؤال قديم بصوت أعلى. فالحزب يقدّم نفسه اليوم بوصفه صاحب الكتلة الأكبر والأوسع تمثيلاً، ويرى أن من حقه ترجمة هذا الثقل إلى منصب رئاسة الجمهورية، تماماً كما يتحمل العبء الأكبر في إدارة الإقليم أمنياً واقتصادياً.
هذا الجدل لا ينفصل عن واقع معقد في أربيل والسليمانية. فالصراع على موقع رأس الدولة الاتحادية يتزامن مع تعطّل تشكيل حكومة إقليم كوردستان، وعدم انتخاب رئيس للبرلمان، ما يجعل الكورد يفاوضون على أعلى منصب سيادي في بغداد بينما يبقى بيتهم الداخلي من دون سقف سياسي متماسك.
في هذا المناخ، يلفت فرهاد توفيق، المتحدث باسم الحزب الاشتراكي الكوردستاني، إلى أن ما أفرزته صناديق الاقتراع في بغداد كان يمكن أن يتحول إلى نقطة قوة للكورد، لكنه مهدد اليوم بأن يتحول إلى فرصة ضائعة.
قبل أن يشرح تفاصيل رؤيته، يستعيد توفيق الدعوة التي كان حزبه قد أطلقها قبل الانتخابات لتشكيل تحالف كوردي موحد، ويقول إن تلك الدعوة تبدو الآن أكثر واقعية وإلحاحاً مما كانت عليه آنذاك. ويوضح في حديثه لوكالة شفق نيوز أن المرحلة الراهنة لا تتعلق فقط بتوزيع حقائب وزارية أو مواقع في إقليم كوردستان، بل بحسم موقع الكورد في قمة الهرم السياسي العراقي، حيث تدار الملفات الأكثر حساسية مثل النفط والميزانيات والعلاقة الاتحادية.
ويحذر من أن المناصب التي كانت تُعد تقليدياً من حصة الكورد، وبينها رئاسة الجمهورية، قد تصبح جزءاً من بازار أوسع على الطاولة إذا استمر الانقسام وتعددت الوفود والرؤوس التفاوضية. ومن وجهة نظره، فإن وحدة ما بعد الانتخابات لم تعد خياراً تكتيكياً، بل شرطاً للحفاظ على المكتسبات، لأن الذهاب إلى بغداد بخرائط متضاربة يمنح القوى الأخرى أفضلية في رسم شكل الحكومة المقبلة وتوزيع مفاصلها السيادية.
فراغ في أربيل والسليمانية
في موازاة ذلك، ينظر الأكاديمي الكوردي أرسلان محمد إلى المشهد من زاوية مؤسساتية أشمل، محذراً من أن تعطّل ترتيبات الحكم داخل الإقليم ينعكس تلقائياً على قدرة الكورد في التفاوض مع المركز.
قبل أن يعدد مظاهر الأزمة، يشير محمد إلى مرور أكثر من سنة على انتخابات برلمان كوردستان من دون تشكيل حكومة جديدة أو انتخاب الرئاسات في الإقليم، ويرى أن هذا التعطّل لا يمكن وصفه بمجرد تعثر عابر، بل هو قصور سياسي بنيوي يصل صداه مباشرة إلى طاولة المفاوضات في بغداد. فالأطراف الكوردية التي تعجز عن ترتيب بيتها الداخلي، كما يقول، تجد نفسها في موقع أضعف عندما تطالب بحقوق تتعلق بالرواتب، وحصة الإقليم من الموازنات الاتحادية، وتطبيق المادة 140، وسواها من الملفات التي تحتاج إلى خطاب موحد.
ويحذر من أن غياب الرؤية المشتركة لا يهدد فقط مسار الرواتب والموازنات، بل يمتد اليوم إلى موقع الكورد في معادلة الرئاسات الثلاث، خاصة في ظل الخلاف العلني بين الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني حول أحقية كل منهما في منصب الرئاسة. ويضيف أن المواطن الكوردي هو من يدفع الثمن أولاً، في ظل أزمة رواتب مستمرة، واختناقات اقتصادية، وخدمات متعثرة تجعل الصراع على المناصب في بغداد يبدو منفصلاً عن الضغوط اليومية التي يعيشها الشارع.
بعيداً عن تفاصيل الجولة الانتخابية الحالية، يشير السياسي الكوردي محمد رؤوف إلى أن ما يجري اليوم ليس استثناء عن سياق طويل من التوتر بين الحزبين الرئيسيين في إقليم كوردستان.
قبل أن يتناول تداعيات اللحظة الراهنة، يعيد رؤوف التذكير بأن الخلافات بين الحزب الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني تمتد بجذورها إلى القرن الماضي، وأن حضورها ظل ثابتاً بأشكال مختلفة حتى اليوم. ويقول في حديثه لوكالة شفق نيوز إن هذه الخلافات تركت عبر السنوات آثاراً سلبية تراكمت في صورة انقسامات حزبية وسياسية، ثم تجسدت في مرحلة لاحقة في انقسام إداري ومناطق نفوذ وسلطة داخل الإقليم.
كما يشير إلى أن هذه التقسيمات لم تبق محصورة في الخرائط السياسية، بل انعكست بشكل مباشر على حياة المواطنين، من خلال أزمة الرواتب وتأخيرها، وطريقة إدارة الميزانية، وغياب الشفافية وعدم إحالتها بشكل منتظم إلى البرلمان. كما يلفت إلى أن السوق والحوكمة تأثرتا سلباً، وأن الخلاف العميق على رؤيتين مختلفتين للإدارة والقيادة وطريقة إدارة الحكومة والسلطة أنتج نموذجين متباينين داخل الإقليم نفسه.
ويتابع رؤوف أن هذه الأوضاع المتأزمة المستمرة أدت إلى تآكل الثقل الكوردي في بغداد، إلى درجة غياب رؤية وطنية مشتركة للتعامل مع الحكومة الاتحادية والحصول على المستحقات الدستورية. ويحذّر من أن الأزمات المقبلة تقترب سريعاً، سواء في ما يتعلق بتشكيل الحكومة الاتحادية المقبلة أو في ما يتصل بالاستحقاقات الكوردية، وأن استمرار النهج الحالي قد يدفع الكورد نحو موجة جديدة من الخسائر السياسية والقانونية، حتى لو حققت بعض أحزابهم أفضل النتائج في صناديق الاقتراع.
مرآة صراع
على مستوى آخر، ينظر المحلل السياسي كامران خورشيد إلى معركة رئاسة الجمهورية بوصفها تجلياً لصراع أوسع على الزعامة داخل إقليم كوردستان، أكثر منها منافسة على موقع بروتوكولي في النظام السياسي العراقي.
قبل أن يفصل في رؤيته، يوضح خورشيد أن الحزب الديمقراطي الكوردستاني يقدم نفسه اليوم على أنه القوة الأولى انتخابياً واقتصادياً وأمنياً، ويعتبر أن ترجمة هذا الثقل إلى منصب رئاسة الجمهورية تمثل اعترافاً بمركزية دوره داخل العراق، لا سيما في ظل مسؤوليته عن إدارة مساحات واسعة من الإقليم وملفات حيوية. في المقابل، يستند الاتحاد الوطني إلى رصيد طويل في بغداد، وإلى شبكة علاقات متداخلة مع قوى شيعية رئيسية، ويرى أن التخلي عن موقع الرئاسة يمكن أن يخل بتوازن دقيق حافظ على شكل من أشكال الشراكة داخل الإقليم طوال العقدين الماضيين.
هذا التناقض، كما يقول خورشيد، يجعل أي مبادرة للتقارب أكثر كلفة، إذ يتحول كل تنازل في ملف الرئاسة إلى رسالة داخلية صعبة لأي من الطرفين. وفي الخلفية، تراقب القوى الشيعية والسنية تطورات البيت الكوردي بدقة، بوصفها عاملاً إضافياً يمكن استثماره في مفاوضات تقاسم السلطة في بغداد، سواء عبر تشجيع طرف على حساب آخر أو عبر استغلال الانقسام لتقليص سقف المطالب الكوردية.
في زاوية أخرى من النقاش، يختار المحلل السياسي برهان شيخ رؤوف العودة إلى النص الدستوري نفسه، محذراً من أن استمرار الكورد في التوجه إلى بغداد بكتل مشتتة قد يقود إلى خسارة تدريجية لما تحقق منذ عام 2005.
قبل أن يستعرض السيناريوهات المحتملة، يذكّر شيخ رؤوف بأن رئاسة الجمهورية ليست مجرد رمز شرفي، بل بوابة مؤثرة يمكن عبرها ترك بصمة في ملفات مفصلية، من قانون المحكمة الاتحادية إلى تأسيس المجلس الاتحادي المنتظر، وصولاً إلى التعامل مع الاتفاقات الدولية والقرارات السيادية. ومع تصاعد الأصوات في بغداد المطالبة بإعادة النظر في بعض آليات تقاسم السلطة وتوزيع الموارد، يصبح وجود رئيس قريب من رؤية موحدة لأربيل والسليمانية، أو بعيد عنها، عاملاً حاسماً في رسم علاقة الإقليم بالمركز في السنوات المقبلة.
ويقترح شيخ رؤوف التعامل مع ملف رئاسة الجمهورية بوصفه جزءاً من سلة تفاوضية أوسع تشمل الرواتب والميزانية والنفط والمناطق المتنازع عليها، لا بوصفه جائزة منفصلة يتنافس عليها حزبان.
ويشدد على ضرورة تشكيل غرفة عمليات كوردية مشتركة، تضم لجنة مستشارين في الشأن الدستوري والاقتصادي، تضع خطوطاً حمراء متفقاً عليها قبل الدخول في أي صفقة تخص الرئاسات أو الحكومة الاتحادية، بما يحول دون تكرار سيناريوهات التراجع التدريجي عن الحقوق.
بين الفوز الخسارة
أما السياسي الكوردي المستقل الدكتور كارزان مراد فيربط بين اختبارات الداخل الكوردي والتحولات الإقليمية والدولية الأوسع، ويرى أن اللحظة الراهنة تفرض على الكورد إعادة تقييم أدواتهم قبل الوقوف أمام موازين القوى الجديدة في بغداد.
قبل أن يشرح رؤيته، يلفت مراد إلى الضغوط المتزايدة على إقليم كوردستان في ملفات النفط والميزانية والحدود والمعابر، وإلى تنامي أدوار إقليمية متداخلة في الملف العراقي. في ظل هذه الظروف، كما يقول، تبدو حاجة الكورد إلى كتلة متجانسة في بغداد أكبر من أي وقت مضى. فالفوز الذي حققه الحزب الديمقراطي يمكن أن يشكل قاعدة لبناء فريق كوردستاني قوي في العاصمة، أو يتحول إلى شرخ أعمق إذا استُخدم أداة لإقصاء الشريك الكوردي الآخر، بدلاً من أن يكون مدخلاً لتسوية جديدة داخل البيت الكوردي نفسه.
ويشير مراد إلى أن ضعف الخبرة التشريعية والتفاوضية لدى جزء من ممثلي الكورد في البرلمان والوزارات يجعلهم عرضة للتأثر السريع بكل أزمة أو صفقة عابرة، بدلاً من إدارة الملفات بعقل استراتيجي طويل النفس.
ومن هذا المنطلق، لا يعود السؤال محصوراً بمن يوقّع مراسيم رئاسة الجمهورية، بل بمن يملك القدرة على كتابة النصوص والقوانين التي ستحكم علاقة أربيل ببغداد في السنوات المقبلة.
في خلفية كل هذا الجدل السياسي، يطل شبح صراع لم يُطوَ بالكامل بعد، مع كل أزمة سياسية، هو الصراع الكوردي الكوردي نفسه. فالتنافس بين الحزبين لا يجري فقط تحت قبة البرلمان أو على طاولة التفاوض في بغداد، بل يحمل في ذاكرته الجماعية رائحة البارود التي ملأت هواء التسعينيات، عندما تحولت شوارع بعض القصبات وخواصر المدن إلى خطوط تماس بين الإخوة.
اليوم تبدلت الأدوات وتغيّرت لغة الخطاب، لكن كثيراً من القرى والبلدات ما زالت تستحضر تلك الأيام حين ترتفع حدة التوتر بين أربيل والسليمانية، ويخشى كثيرون من أن تتحول المعارك الحالية على المناصب والنفوذ إلى بوابة لانقسام أعمق إذا لم يُدَر الخلاف بعقل بارد وإرادة حقيقية لتجاوز ماضٍ ترك جراحه مفتوحة في الذاكرة الكوردية حتى الآن.