شفق نيوز/ النتائج المفاجئة نسبيا التي خرجت من صناديق الاقتراع العراقية، تقود الى ثلاث خلاصات أساسية، ستحكم تشابكات الوضع السياسي العراقي ربما حتى حلول موعد الانتخابات المقبلة، بعدما فرضت حقائق ووقائع لم يعد بالإمكان تجاهلها، لا من السلطة السياسية، ولا من القوى والأحزاب القائمة.
ولعل أبلغ الرسائل قوة في صداها تلك المتعلقة بنسبة الإقبال التي بلغت 41% التي اعتبرت الادنى منذ سقوط النظام العام 2003 والتي سجلت برغم الدعوات المكثفة التي أطلقت من رموز الدولة وحتى الأحزاب الفاعلة كافة التي ناشدت أنصارها الخروج للتصويت، وصولا الى تدخل المرجع الشيعي الاعلى علي السيستاني الذي ناشد الناخبين الإقبال لانه السبيل الامثل من اجل بناء الدولة واخراج الفاسدين من اروقة الحكم.
والمفارقة ان تسجل مثل هذه النسبة المتدنية ايضا في وقت يعاني العراق من سلسلة طويلة من الازمات والمشكلات التي تطال غالبية قطاعات الحياة، من الوظائف الى الرعاية الصحية الى الفساد المستشري، الى انفلات السلاح، الى خطر الارهاب الماثل دائما، وصولا الى الاهمال الضارب في خدمات الدولة من كهرباء ومياه وغيرها.
ولهذا، فان المنطق يفترض – والحال هذه – ان المواطن الناخب، سيخرج لتغيير واقعه المرير، باعتباره عملا ديمقراطيا بديهيا، وتطلعا نحو المستقبل من خلال صناديق الاقتراع. لكن ان يحتجب اكثر من 13 مليون ناخب في منازلهم، ولا يخرج الى التصويت سوى نحو 9 ملايين ناخب، فيه الكثير من الدلالات والمعاني المؤلمة سياسيا واجتماعيا وحزبيا.
وبرغم ذلك، فان ما من محلل "متوازن" الا وكان يتوقع ان الاقبال لن يكون قويا في انتخابات العاشر من تشرين الاول أكتوبر، وان الذين كانوا يروجون لغير ذلك، كان من باب التمني اكثر مما هو انعكاس لحقيقة اللامبالاة والاحباط الذي يشعر به ملايين العراقيين، وهو احباط تردد صداه واضحا مع اعلان المفوضية المستقلة للانتخابات، نتائج التصويت ونسب الاقبال في المحافظات المختلفة.
وبحسب العديد من المراقبين، فإن الخلاصة الرئيسية الثانية التي يمكن رصدها، ان الانتخابات التي دعي إليها باعتبارها "مبكرة" واستجابة لصرخات ملايين العراقيين، لم تأت بالتغيير الجذري المأمول من محتجي حركة تشرين، وانما ربما على العكس تماما، ساهمت في التأكيد على ان "القوى السياسية التقليدية" ان صح التعبير، ما زالت قادرة على الهيمنة على مشهدي العمل السياسي والاجتماعي، حتى وان تبدلت أحجامها ومقاعدها البرلمانية وحصصها في التركيبة السياسية.
وتحتاج هذه المسألة الى تدقيق شديد لفهم أسباب ما حصل، ولمعاني ذلك، وتداعياته على العمل المستقبلي في العراق، ومع ذلك فإن كثيرين يجمعون على ان العنف الذي استخدم ضد المتظاهرين وعمليات الاغتيال التي استهدفت ناشطين بارزين، أشاعت اجواء من انعدام الامل بالتغيير الديمقراطي وبسيادة مناخ الخوف والترهيب، وهو ما يجب ان يؤخذ بعين الاعتبار في العملية الانتخابية المقبلة، من أجل استنهاض الناخبين وخاصة جيل الشباب والشابات من اجل اخراجهم من قوقعة اليأس التي لا تمثل بارقة خير بالنسبة الى البلد.
ومن البديهي ان حكومة مصطفى الكاظمي، وبالتفاهم مع القوى السياسية المختلفة، وحتى مع قوى ممثلة لحراك تشرين الاحتجاجي، كانت تأمل من خلال الدعوة الى انتخابات مبكرة لتعزيز مبادئ العمل الديمقراطي بأن تساهم الانتخابات- اي انتخابات – في احداث تحولات داخلية، تعبر عن مختلف شرائح المواطنين وتشكل متنفسا لهم، للتأكيد على انها معبرة عن اصواتهم وتطلعاتهم، فاذا انتفت هذه الاحتمالات، يذهب العراق الى طرق مسدودة، ويعيد طرح التساؤلات عما اذا كانت العملية الديمقراطية التي ما زالت في ريعان الشباب (نحو 20 سنة من العمر)، لها جدواها فعلا.
لكن النتائج المخيبة نسبيا بنظر انصار حركة الاحتجاج على الاقل، وتحقيقهم بعض الحضور هنا وهناك، لا تعني ان بامكان "القوى الحزبية التقليدية" ان تنام على حرير مكاسبها، أقلها في السنوات الفاصلة ما بين العاشر من اكتوبر وموعد الانتخابات البرلمانية المقبلة المفترض انها في العام 2025، وربما بالعكس تماما، حيث ان الشارع برهن بشكل او بآخر، سواء من خلال نسبة المقاطعة الاحتجاجية الواسعة، او من خلال نجاح بعض الشخصيات التي تعتبر نفسها ممثلة لحراك المتظاهرين، انه قد يكون بمثابة كرة ثلج مرشحة لان تكبر وتتدحرج مستقبلا.
ولهذا، يؤكد المراقبون ان هاتين النتيجتين ينبغي ان تدقا جرس انذار عال للقوى التقليدية لكي تتعامل معهما بالحكمة، سواء بالمبادرة للاستجابة لتطلعات "الشريحة المقاطعة"، أو لاحتضان – وليس محاصرة - رؤى الشخصيات المنبثقة من الحراك في المجلس النيابي الجديد، وادماجها في صلب العمل السياسي الشامل.
الخلاصة الرئيسية الثالثة والتي لا تقل أهمية، ان عناصر المساومات الحزبية والانتخابية تبدلت عما كان عليه الحال في العام 2018 عندما حل في الصدارة "تحالف سائرون" (54 مقعدا) و"تحالف الفتح" (47 مقعدا) و"ائتلاف النصر" (42 مقعدا)، ثم "دولة القانون" (26 مقعدا)، ما يعني ان قواعد الاتيان برئيس جديد لتولي الحكومة، او التجديد لرئيس الحكومة الحالي مصطفى الكاظمي، ستخضع لقواعد اللعبة الجديدة.
وبالنسبة الى الحزب الديمقراطي الكوردستاني، فيمكن القول انه عزز دوره كلاعب اساسي على الساحة العراقية وفي المساهمة في رسم التحالفات والتوازنات المحتملة في بغداد، حيث اصبح يتمتع ب32 مقعدا في البرلمان، محققا صعودا لافتا مقارنة بانتخابات العام 2018 عندما جمع 25 مقعدا.
ومعلوم ان الكتل البرلمانية والسياسية باشرت بالفعل في اتصالاتها لاستشراف احتمالات المستقبل، وسيكون الحزب الديمقراطي الكوردستاني بمثابة حجر زاوية يتحتم التنسيق والتشاور معه في الصياغات المحتملة للحكومة العتيدة ورئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان ايضا. وها هو القيادي في الحزب هوشيار زيباري يعلن الثلاثاء أن الحزب بدأ المشاورات مع معظم القوى السياسية الفائزة بالانتخابات، وقريبا جدا سنشكل وفدنا للتوجه الى بغداد للتباحث حول تسمية الرئاسات الثلاث، وتشكيل الحكومة الاتحادية الجديدة، مضيفا "من جانب اخر سنبحث مع الاطراف الكوردستانية ايضا لاننا اكيد نرغب في العمل كفريق واحد".
ويشكل هذا التصريح اشارة ايجابية لافتة تجاه الاتحاد الوطني الكوردستاني الذي لم يحقق النتائج التي كان يرجوها من الانتخابات اذ بعدما كان يتمتع ب18 مقعدا في الانتخابات الماضية، لم يتمكن هذه المرة سوى من جمع 17 مقعدا بالرغم من تحالفه مع حركة التغيير التي لم تتمكن بدورها من الفوز بأي مقعد، واضطرت الى الاعتذار من ناخبيها ومؤيديها.
والان، في ظل النتائج المتردية التي حققها تحالف الفتح بزعامة هادي العامري، وتعزيز الصدريين لحصتهم البرلمانية بدرجة كبيرة (73 مقعدا)، بالترافق مع التقدم الجيد الذي حققه نوري المالكي بحلوله ثالثا (37 مقعدا)، سيؤكد ما كان متوقعا بان السيد مقتدى الصدر سيتصدر المشهد السياسي في المرحلة الحالية، وسيكون بمثابة "صانع الملوك" على حد وصف صحيفة "واشنطن بوست" الامريكية له عشية الانتخابات.
وبمعنى آخر، فان الصدر، وبالتحالف مع قوى أخرى، سيكون قادرا على تحديد مصير زعامة الحكومة الجديدة، ما لم تحدث مفاجآت والاعيب سياسة تقود نحو طريق مغاير. وبدأت بالفعل التسريبات بان تفاهما ما يجري بين الصدريين وبين الحزب الديموقراطي الكوردستاني مع "تحالف تقدم" بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي الذي حل ثانيا (41 مقعدا)، من اجل تسكيل الحكومة الجديدة.
وكان من اللافت للنظر ان الصدر غرد بالتزامن مع تقارير غير رسمية حول وجود قائد فيلق القدس في الحرس الثوري اسماعيل قاآني في بغداد مع ظهور النتائج الاولية للانتخابات، قائلا انه "لا ينبغي التدخل بقرارات المفوضية أو تزايد الضغط عليها لا من الداخل ولا من بعض الدول الاقليمية والدولية، فالانتخابات شأن داخلي".
وربما تشكل تغريدة الصدر محاولة عاجلة لقطع الطريق على تحركات قاآني اذا شعر ان فيها محاولة لتهميش دوره، وتأكيدا من جانب زعيم التيار الصدري انه متمسك برغبته في ان تكون له الكلمة العليا في اختيار رئيس الحكومة المقبل، خاصة بعد الضربة التي تلقاها "تحالف الفتح" الذي لم يحصل سوى على 14 مقعدا.
ومن الممكن البناء على تغريدة الصدر، من خلال النيل ولو ضمنيا من زيارة قاآني، بان ما سيحدث في الايام التالية، هو صدام ولو مرحلي بين القوى الشيعية، على الحصص والاولويات الحكومية والسياسية، قد يتجسد في سعي الصدريين الى محاولة اقصاء خصومهم في الفتح ودولة القانون، خاصة ان العلاقات ليست بأحسن أحوالها بين الصدر وكل من العامري والمالكي.
وقد جسد الصدر هذه الاحتمالات مع اعلانه في مؤتمر صحافي ليل الاثنين انه يقف ضد استخدام السلاح خارج اطار الدولة من قبل الجميع حتى وان كان ممن يدعي انه سلاح المقاومة، وهو تصريح يبدو هجوما مبكرا على فصائل الحشد الشعبي المنخرطة في تحالف الفتح تحديدا.
ولفتت انظار المراقبين المواقف التي اطلقها زعيم تحالف الفتح هادي العامري الذي شكك في نتائج الانتخابات، وتصريحات المسؤول الامني لكتائب حزب الله "ابو علي العسكري" الذي دعا "فصائل المقاومة" الى الاستعداد لمواجهة ما اسماه اكبر عملية احتيال على الشعب العراق في التاريخ الحديث.