شفق نيوز- أربيل
في إحدى أمسيات الحملة الانتخابية، وبين ضجيج الهتافات وأضواء المنصّة، توقّف نيجيرفان بارزاني لثوان قصيرة قبل أن يرمي بجملته المتحدية التي أثارت جدلاً واسعاً بأن "البارتي سيحصل على مليون صوت".
كان الصمت الذي تلا تلك العبارة أثقل من الهتاف نفسه، لم يكن أحد يتخيّل أن الرقم الذي بدا أشبه بـ"مبالغة انتخابية" سيتحوّل بعد أيام إلى حقيقة تهزّ الخارطة السياسية للعراق بأكمله. حتى داخل الحزب، كانت هناك همسات مترددة، "مليون صوت؟ في انتخابات تراجع فيها الإقبال على صناديق الاقتراع في أغلب المحافظات؟".
لكن ما حدث في يوم إعلان النتائج لم يكن مجرد نجاح انتخابي، بل حدثاً سياسياً نادراً يعيد ترتيب موازين القوى ويطرح أسئلة تتجاوز حدود كوردستان.
لحظة الانعطاف
حتى ليلة الاقتراع، كانت التوقعات الأكثر تفاؤلاً داخل الحزب الديمقراطي الكوردستاني تتحدث عن رقم يقترب من 850 ألف صوت. وهو رقم كبير، لكنه ليس ثورياً.لكن نتائج الساعات الأولى من الفرز كانت كفيلة بتغيير النبرة. مناطق كان يُظن أنها "رمادية"، اندفعت نحو صناديق الحزب. وبلدات ظلت محايدة لسنوات، صوّتت بكثافة هذه المرة. شيئاً فشيئاً، بدأت القيادات العليا تدرك أن الرقم الذي أطلقها نيجيرفان بارزاني أول مرة كتحدٍ، صار يقترب من أن يصبح واقعاً، ومع بلوغ مساء الإقتراع العام كان "البارتي" قد تجاوز المليون.
من موقعه كمستشار في رئاسة الإقليم، يقدّم خيري بوزاني تفسيراً مختلفاً لما حدث، يقول لوكالة شفق نيوز، إن ما جرى لم يكن ثمرة أيام حملة انتخابية، بل حصيلة سنوات من إعادة صياغة العلاقة بين الحزب وشارعه.
ويضيف: "الأصوات المليون لم تأتِ صدفة، بل هي انعكاس لشارع وجد في الحزب عنواناً للاستقرار بعد سنوات من القلق. في قلب هذا التغيير كان نيجيرفان بارزاني بخطابه الهادئ الذي يعيد ربط الناس بالمشروع الوطني".
ويؤشر بوزاني دور القيادة الثلاثية مسعود بارزاني، نيجيرفان بارزاني، ومسرور بارزاني، بوصفه "مثلث اتزان" جعل صورة الحزب في نظر الناخب أكثر تماسكاً، وأكثر قدرة على تقديم مستقبل واضح المعالم.
جيل جديد.. ولغة جديدة
لكن تفسير المشهد لا يكتمل دون التوقف عند التحوّل العميق في عقلية الجيل الذي صوّت، الباحث السياسي هوشيار مالو يذهب أبعد من فكرة "التنظيم القوي"، ويرى أن "البارتي" فهم شيئاً لم يفهمه الآخرون: "أول مرة يخرج الحزب من خطاب الضحية. لم يعد الحديث عن الأنفال والكيمياوي يقنع الجيل الجديد. هذا جيل يعيش على الإنترنت ويرى كيف تُدار الحملات في العالم".
ويضيف خلال حديثه لوكالة شفق نيوز: "بالنسبة لهذا الجيل فإن التحدي" الذي أعلنه الحزب لم يكن مجرد شعار، بل طريقة جديدة للتواصل، لغة مختلفة، تُخاطب المستقبل لا الماضي، وتطرح وعوداً مدعومة بما يسميه مالو -supportive proofs- الأدلة الداعمة من مشاريع، نجاحات اقتصادية، بنى تحتية، وسجلّ لم يُكذّب جمهوره"، مشيراً إلى أن "إقناع شاب أن يخرج من بيته ويصوّت لك هذا أصعب بكثير من أن يعطيك Like- حالة إعجاب عبر التواصل الإجتماعي".
لم يكن فوز الديمقراطي بالأصوات المليون حدثاً كوردياً صرفاً. ففي بغداد، أعاد هذا الرقم ترتيب أوراق التفاوض السياسي، وجعل "البارتي" القوة الأولى كحزب من حيث الأصوات على مستوى العراق.
ففي الأوساط السياسية، يُقرأ الفوز بوصفه تفويضاً شعبياً يضع على الحزب مسؤولية مضاعفة.
وبعد تحقق التحدي الذي أطلقه نيجيرفان بارزاني عقب التصريح الشهير، تبدو الجملة الآن وكأنها كانت قراءة مبكرة لمزاج الشارع، لا مقامرة سياسية. وربما كان يتحدث بثقة رجل رأى ملامح التحول في اللقاءات الميدانية، في لغة الجمهور، وفي المزاج الذي بدأ يتحرك ببطء، ثم اندفع بقوة نحو الصناديق.
ويذهب المراقبون إلى أن عبور "البارتي" عتبة مليون صوت لم يكن مجرّد انتصار انتخابي منفصل، بل ثمرة روح جماعية في طريقة إدارة الحملة وفي الخطاب الذي قدمه زعيم الحزب مسعود بارزاني، ومعه نيجيرفان بارزاني ومسرور بارزاني.
"لم تُدار هذه الانتخابات بمنطق تجميل الواقع أو إخفاء العثرات، بل بقدر لافت من تشخيص المشاكل، والاعتراف بوجود أخطاء، والاقتراب من المزاج الحقيقي للناس"، وهذا ما ذهب إليه الكتاب السياسي بدر اسماعيل شيروكي لوكالة شفق نيوز.
كما يشير إلى أنه "كان واضحاً أن قادة الحزب الثلاثة قرروا - وكلٌّ من موقعه - عدم الوقوف خلف المشكلات أو التذرع بها، بل وضعها على الطاولة، وتحويلها إلى برنامج عمل لا إلى شعارات، هذه الروح المشتركة في قيادة الحملة منحت صورتها زخمها حيث زعامة تراجع خطوات إلى الوراء كي تُقدّم رؤية أوسع، وقيادة تنفيذية تعمل بواقعية، وصوت توافقي يطمئن الشارع ويستعيد ثقته".
الرجل الذي قال الرقم قبل أن يحدث
ولترجمة واقعية لما وصفته قواعد الحزب بالانتصار الانتخابي لكوردستان، يقول عضو برلمان كوردستان في الدورة الثالثة علي حسين فيلي، إن هذا "الانتصار المدفوع بتحدي مليون صوت الذي أطلقه الرئيس نيجيرفان بارزاني فرصة استراتيجية نادرة لتحويل رصيد انتخابي إلى قدرة حكمية مؤسسية، وتمثل منعطفاً ذا أبعاد محلية وإقليمية".
كما يضيف أن "الرئيس نيجيرفان بارزاني قدّم سردية لقيادة عملية معقولة، حيث مزج بين الأداء الإداري والوعود الاجتماعية، وأدار الحملة بمنهجية حديثة (استهداف رقمي، فرق استجابة سريعة، إدارة أزمة فعالة). مضاف إلى ذلك الدعم الشامل من قبل الزعيم الكوردي مسعود بارزاني فشكل غطاءً شرعيًا وتنفيذيًا للتحدي ونجاح الحزب انتخابياً".
ويشير إلى أن تحقيق هذا التحدي شكّل رصيدًا نفوذياً يمكن تحويله إلى قدرة تفاوضية وادارية، لكنه لفت إلى أن النجاح في ذلك مرهون بثلاثة شروط متداخلة: "تنفيذ فوري للوعود العملية، بناء آليات داخلية شفافة لدعم وديمومة هذا الإنتصار التاريخي، وتحصين العلاقة التفاوضية مع بغداد ضمن أطر قانونية قابلة للتنفيذ".
"ومن هنا جاءت البيانات الثلاثة لزعيم الحزب ونائبيه عقب إعلان النتائج، كامتداد طبيعي لنهج واحد حيث قراءة دقيقة للمشهد، وإرادة سياسية لتجاوز العقبات، لا للتغاضي عنها"، يقول فيلي.
وفي بيانه الأول بعد عبور عتبة مليون صوت، اختار مسعود بارزاني زعيم الحزب أن يبدأ من الناس، حيث قدّم تهنئته لـ "شعب كوردستان وجميع أبناء العراق"، واضعاً نجاح الانتخابات في إطار أوسع من مجرد انتصار لحزب واحد، بوصفه اختباراً جديداً لقدرة العراق على حماية مساره الديمقراطي.
أما نيجيرفان بارزاني، مهندس "تحدي مليون صوت"، ونائب زعيم الحزب، فاختار لغة أقرب إلى إعلان نهاية مرحلة وبداية أخرى. في بيانه، وصف نتيجة الاقتراع بأنها "انتصار كبير وتاريخي" للحزب ولجمهوره، واعتبر أن ما تحقق ليس مكسباً حزبياً ضيقاً، بل هو "انتصار لكوردستان وكل العراق" ومصدر فخر مشترك لكل من شارك في العملية السياسية.
من جهته مسرور بارزاني وهو النائب الثاني لزعيم الحزب، قال إن هذا الإنجاز جاء بفضل "موقف وإرادة المواطنين المخلصين في كوردستان وأعضاء الحزب الديمقراطي الكوردستاني، وأن النقاط المليون انطلاق لا نقطة وصول".
لم يكتفِ بتهنئة جمهور الحزب، بل وجّه تهنئة خاصة إلى "رئيس وقائد الشعب" مسعود بارزاني، وإلى نيجيرفان بارزاني الذي أطلق تحدي الأصوات المليون، ووصف هذا الفوز بأنه نصر للعملية الديمقراطية في العراق كله.