شفق نيوز/ "علمود الفلوس أكتل امي وابوي..(اقتلهما)".. هكذا يهدد أحد الأطفال ممن يبيعون المياه، لا يتجاوز عمره 12 عاماً، في منطقة الباب الشرقي، وسط بغداد، شقيقه الأكبر عمراً (اقل من 18 سنة) رافعاً بيده سلاحاً أبيض (سكين) نتيجة خلافهما على مبلغ من المال ليتدخل عدد من سائقي سيارات الأجرة لفض نزاع الطفلين ومحاولة الصلح بينهما، ما يفتح الباب واسعاً أمام عمالة الأطفال في العراق وكيفية دخول هذه الفئة في أتون العمل والجريمة وحتى الاستغلال الجنسي.
وسط ظروف اقتصادية صعبة يضطر آلاف من الأطفال العراقيين إلى العمل لإعالة عوائلهم الفقيرة، فيما يؤكد مختصون أن عمالة الأطفال ينتج عنها أضرار جسدية ونفسية كونها - في الغالب - أعمالا شاقة لا تتناسب مع أعمارهم، وسط تحذيرات من خطورة تلك المؤثرات التي ستنعكس سلبا على حياة الطفل مستقبلا.
ودفع ارتفاع معدّلات الفقر في العراق مؤشّر عمالة الأطفال إلى تسجيل أرقام جديدة مرتفعة في معظم مدن البلاد في العامَين الماضيَين، بحسب ما تُبيّن تقارير حقوقية وكذلك مسؤولون عراقيون.
قاتل ومقتول
ومع طفل الباب الشرقي "المسلح"، يظهر ضحايا من الأطفال العاملين الذين لا ذنب لهم إلا تواجدهم في أُسر تعاني شظف العيش، ومنهم الطفل محمد (12 عاما) وهو أحد النازحين من صلاح الدين الذي يعيل عائلته المكونة من ثلاث بنات وامهم عبر العمل عاملاً في احدى المحال بسوق الرضوي أحد الأسواق الشعبية بمدينة الصدر الشعبية، شرقي بغداد.
ويبين الطفل أن عمله في السوق جاء بعد مقتل أبيه على يد تنظيم (داعش) خلال فترة سيطرة التنظيم على المحافظة وهروبه مع عائلته الى اقاربهم في بغداد.
ويبدي الطفل تخوفه من فكرة عودة عائلته الى المحافظة والناحية من جديد بعد ما جرى، ويبين ان العمل هنا يجنب اهله مخاطر العودة لان الظروف هناك لم تعد معروفة.
ويضيف الطفل الذي ترك مقاعد الدراسة ان عليّ الاختيار بين العمل أو الدراسة فذروة العمل هنا تكون في الصباح وليس لدي ما يجعلني اجتهد من أجله بعد وفاة أبي، مبينا أنه ما يكسبه يومياً لا يكفي لسد رمق عائلته، لكن بعض الجيران يساعدون العائلة في مسألة الأكل والشرب والملابس، فيما يسكنون في غرفة صغيرة مع أقاربهم.
وفي أطراف بغداد، يغطي الدخان المنبعث من معامل "الطابوق" (الطوب) المستخدم في بناء المنازل سماء مدينة النهروان (شرقي بغداد)، بينما تعمل العشرات من العائلات في تلك المعامل بحثا عن لقمة العيش،إذ يرافق العديد من الأطفال أهلهم بالعمل هناك ساعات طويلة، للحصول على مردود زهيد يدفعهم لترك دراستهم دون ضمانات أو حقوق تقيهم من الملوثات البيئية أو قساوة العمل وصعوبته.
يقول الطفل علي (11 عاما) إنه "يحصل على 6 دولارات مقابل العمل لأكثر من 10 ساعات، دافعه في ذلك مساعدة عائلته، تاركا وراءه المدرسة".
وتقول لجنة الإنقاذ الدولية في العراق، إن معدلات عمالة الأطفال مرتفعة بشكل مقلق في البلاد، وتستمر في تعطيل تعليم الأطفال وحرمانهم من طفولتهم ونيل حقوقهم الأساسية، إلى جانب تعرضهم لظروف غير آمنة، فالحكومة مطالبة بإنفاذ قوانينها الخاصة برعايتهم وحمايتهم.
ويذكر التقرير أن 85% من الأطفال المنخرطين في العمل لا يشعرون بالأمان في أماكن عملهم، مشيرين إلى حالات التحرش وعدم امتلاكهم المعدات المناسبة لحماية أنفسهم أثناء العمل في المصانع أو في الشوارع.
وذكر التقرير أن العراق من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وينص دستوره على إلزامية التعليم الابتدائي لجميع الأطفال، لكن الواقع يختلف كثيرا بالنسبة للأطفال في أنحاء البلاد.
أسباب انتشار عمالة الأطفال
ويعزو رئيس الجمعية النفسية العراقية، قاسم حسين، خلال حديثه لوكالة شفق نيوز، الدور الرئيس بخلق ظاهرة عمالة الأطفال في العراق إلى "الحروب منذ عام 1991 إلى 2003، وما رافقها من حصار اقتصادي نتج عنه انتشار الفقر حتى وصل إلى 13 مليون شخص فقير باعتراف وزارة التخطيط، بالإضافة إلى الثقافة الاجتماعية التي تشجع الطفل على العمل لمساعدة عائلته في كسب لقمة العيش".
ويمكن تقسيم الأضرار التي تحدثها ظاهرة عمالة الأطفال إلى (جسدية، نفسية، اجتماعية، وثقافية)، أما الأولى فهي تكون من خلال حمل الطفل للأوزان الثقيلة التي لا تتناسب مع حجم جسمه، إلى جانب ذلك يتعرض الطفل أيضا إلى إهانات وضغوطات وهي ما تتمثل بالجانب النفسي، وفق حسين.
خطر عمالة الأطفال في العراق
ووفق رئيس المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق فاضل الغراوي، فإن "أكثر من 200 مليون طفل في العالم من أعمار 6 - 17عاماً يعملون في سوق العمل يمثل الذكور منهم نسبة 80%.
ويوضح الغراوي لوكالة شفق نيوز أن "العراق يحتل المرتبة الرابعة في عمالة الأطفال بعد اليمن والسودان ومصر، بنسبة 4.9% في الفئات العمرية الصغيرة يتركز عملهم في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات بنسب عالية"، مبينا أن أسباب ارتفاع معدلات عمالة الأطفال في العراق سببه الأوضاع الاقتصادية بسبب انخفاض دخل الاسرة وارتفاع معدلات البطالة والفقر والصراعات التي عاشها العراق والنزوح وارتفاع معدلات العنف الاسري ضد الاطفال وضعف منظومة التشريعات القانونية والاستراتيجيات لحماية حقوق الطفل .
ويضيف الغراوي أنه "على الرغم من مصادقة العراق على الاتفاقيات الأساسية الرئيسية التي تحمي الأطفال من جميع أشكال عمل الأطفال، كما أنه من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلا أن نسب عمالة الأطفال في العراق مازالت مرتفعة" .
ويحذر باحثون اقتصاديون من أن "عمالة الأطفال تمثّل خطراً كبيراً، فضلا عن الآثار السلبية التي قد تترتّب على هذه الأعمال وامكانية تعرّضهم للابتزاز والتحرّش بطريقة مستمرة، بالإضافة إلى تفكّك الأسرة والتسرّب المدرسي، ونظراً لهذه الآثار الجسيمة، لا بدّ من أن تكثّف الدولة جهودها في محاولة للحدّ من هذا الأمر".
الداخلية: لسنا دور إيواء
ويؤكد مصدر في وزارة الداخلية بأن "مشكلة عمالة الأطفال اجتماعية وليست مشكلة أمنية ونعمل على حماية الأطفال الذين لا تتحمل ابدانهم البيئات الصعبة والاعمال في معامل الطابوق أو التسول في الشوارع بفصل الصيف اللاهب".
ويضيف أن "واجبنا الاستراتيجي هو حماية الفئات الضعيفة في المجتمع ومنها الاطفال ولكننا نواجه مشكلة حقيقية من خلال زيادة عدد الأطفال العاملين في الشوارع، فعندما تقدم الوزارة على مكافحة عمالة الأطفال وتلقي القبض على المتسولين وتحيلهم الى قسم الأحداث والى وزارة العمل فإننا نلاحظ أنهم يخرجون بسهولة ويغادرون دور الإيواء بعد أيام فقط من دخولهم إليها".
ويبين المصدر أن"مديرية شرطة الأحداث تراقب محال بيع المشروبات الكحولية لكي لا تبيعها للأحداث وتضبط بالجرم المشهود من يتعامل بهكذا حالات وتراقب الأماكن التي يمنع تواجد الأحداث فيها، فيما تقوم مديرية حماية الاسرة والطفل بالعمل على جوانب سوء معاملة الاطفال بالإضافة الى الشرطة المجتمعية،فهذه الدوائر الاختصاصية تكون قريبة على المجتمع والطفل وهذه جهات تعمل على حماية الطفولة.
من جهته يؤكد مصدر في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أن "دور الإيواء في الوزارة بيئة حاضنة للأطفال لكن لا توجد قوانين تلزم الأطفال بالبقاء فيها فهي دور إيواء وليست معتقلات".
اليونيسيف والتزامات العراق الدولية
وسبق أن قدّرت منظمة اليونسيف التابعة للأمم المتحدة، حجم عمالة الأطفال في العراق بنحو المليون طفل
وبحسب المنظمة الدولية، فإن ثلث أطفال العراق يمرون بظروف اقتصادية صعبة تضعهم أمام متطلبات العمل لإعالة عائلاتهم، وتوضح أن أطفال العراق يواجهون أعلى زيادة في معدلات الفقر، حيث يوجد طفلان فقيران بين كل 5 أطفال.
"يجب أن يتعلم الأطفال ويلعبوا ليس أن يعملوا"، هكذا يقول غلام إسحق زى، المنسق المقيم للأمم المتحدة في العراق. "إنهم يستحقون الفرص التي تسمح لهم بالازدهار وبناء مستقبل واعد".
وأضاف: "للقضاء على عمل الأطفال، يجب أن نواصل العمل مع الحكومة وجميع أصحاب المصلحة المعنيين لتعزيز السياسات، وبناء القدرات والمؤسسات، لمعالجة الأسباب الجذرية التي تدفع العديد من الأطفال إلى العمل".
وصادق العراق على الاتفاقيات الأساسية الرئيسية التي تحمي الأطفال من جميع أشكال عمل الأطفال، وهي اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 138 بشأن الحد الأدنى للسن، واتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 182 بشأن أسوأ أشكال عمل الأطفال التي دخلت حيز التنفيذ منذ عامي 1985 و 2001. كما أنه من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل.
كما صادق العراق على اتفاقية حقوق الطفل في القانون رقم 5 لعام 1994، وعلى البروتوكولَين الملحقين بها، في القانون رقم 23 لعام 2007.
وتعترف الدول المنضوية ضمن اتفاقية حقوق الطفل العالمية وفي المادة (32-1) على وجه التحديد، بحق الأطفال في الحماية من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يرجّح أن يكون ضاراً بصحتهم أو بنموهم البدني والعقلي والروحي والمعنوي والاجتماعي.
وتنص قوانين وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق على معاقبة المتسبب في تشغيل الأطفال بعقوبة تتراوح بين "الغرامة المالية وإيقاف التصريح لرب العمل"، أو حتى إيقاف النشاط، وفي قانون الاتجار بالبشر، يعاقَب من يستغل شخصا لا يعي حقه – كالأطفال - بالسجن أو الغرامة المالية.
أما دوليا، فإن اتفاقية حقوق الطفل في المادة (32-1) تقول "تعترف الدول الأطراف بحق الأطفال في حمايتهم من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يرجّح أن يكون ضارا بصحة الطفل أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي".
وبحسب تصريحات سابقة لمسؤول شعبة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية حسن عبد الصاحب فإن “عمالة الأطفال تزداد باستمرار بسبب الحروب والصراعات والتهجير الذي حدث، خصوصاً في المحافظات التي تعرضت لغزو داعش"، مبينا أن "هذه الظروف ساعدت على زيادة عمالة الأطفال، لأنه “أصبحت لدينا عائلات كثيرة دون معيل فاضطرت الأم إلى ترك ابنها يعمل".
ويذكر عبد الصاحب أن "القانون العراقي يحظر عمل الأطفال دون سن الـ15 ويعاقب بغرامة مالية والسجن لفترة قد تتجاوز ستة أشهر من يخرق هذا القانون".
وللحد من عمالة الأطفال تقدم وزارة العمل حالياً راتب "رعاية اجتماعية" شهريا لعدد كبير من العائلات الفقيرة، وفق المسؤول، لكن يبقى هذا المورد محدوداً أمام متطلبات الحياة.