شفق نيوز- بغداد
على الرغم من أن الدستور العراقي ضمن في مادته (38) حرية التعبير والصحافة والتجمع السلمي، وعلى الرغم من تأكيدات حكومية متعددة بأن البلاد حققت تقدماً ملحوظاً في ملف الحقوق والحريات بعد عام 2003، إلا أن الواقع الميداني يكشف عن فجوة متسعة بين النصوص القانونية والتجربة اليومية للمواطنين.
ويتفق ستة مراقبين - بمناسبة اليوم الدولي لحقوق الإنسان الذي يحتفل به العالم في 10 كانون الأول/ديسمبر من كل عام - على أن ارتفاع الشكاوى القضائية ضد أصحاب الرأي، وتنامي الضغوط الاجتماعية، واتساع نفوذ القوى السياسية والجهات غير الرسمية، جعلت حرية التعبير حقاً محفوفاً بالاعتبارات لا يمارس إلا بحذر، ما أدى إلى انكماش المجال العام وتحول النقد إلى مخاطرة.
في وقت تشير تقارير حقوقية محلية، منها ما صدر حديثاً عن المرصد العراقي لحقوق الإنسان والمركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان، إلى استمرار القيود التي تحد من قدرة الأفراد على التعبير الآمن؛ بدءاً من استخدام قوانين قديمة مثل المواد (433 و434 و225 و226) لتقييد الخطاب العام، مروراً بتصاعد الشكاوى ضد نشطاء وصحفيين، وصولاً إلى الضغوط الاجتماعية والثقافية التي تجعل الرأي المختلف مدخلاً للتشهير أو الوصم أو حتى التهديد.
مخاطرة يومية
وفي هذا السياق ترى الناشطة والمدافعة عن حقوق الإنسان سارة جاسم أن المشكلة ليست في النصوص بقدر ما هي في الواقع، حيث إن "حرية التعبير معركة يومية، وليست مادة قانونية جامدة".
وتوضح جاسم لوكالة شفق نيوز أن المواطن "يمتلك حق الكلام نظرياً لكنه عملياً محاصر بضغوط سياسية وأمنية واجتماعية تجعل التعبير مخاطرة وليست حقاً".
وتشير إلى أن "الغموض في الاتهامات والقرارات السياسية الفضفاضة يجعل من أي رأي مهدداً بالتحول إلى ملف قضائي أو استدعاء قد يصل إلى السجن".
أما مجتمعياً، فترى جاسم أن الوصم والتخوين والعزل العشائري والرقمي يجعل من الرأي المختلف "خطراً شخصياً"، لذلك فإن الحرية تستنزف "بين سلطة تخشى النقد ومجتمع لا يتسامح مع الاختلاف".
بيئة محاصِرة
من جهتها تصف المحامية والناشطة علياء آل هذال حرية التعبير بأنها حق "محاصر قبل أن يقال"، إذ أن المواطن يتحرك داخل دائرة مزدوجة من الإكراه بين ضغط اجتماعي يفرض ما يمكن قوله وما يجب تجنبه، وضغط سياسي يجعل الكلام "ممراً ضيقاً محروساً بالخوف".
وتضيف آل هذال لوكالة شفق نيوز أن هذه البيئة تجعل حق التعبير "معادلة معقدة"، إذ يحاول الشخص قول ما يؤمن به دون أن يخسر موقعه الاجتماعي أو يتعرض لسوء فهم سياسي أو ملاحقة، وبالتالي "ليست المشكلة في ما يقال علناً، بل في ما يُجبر الناس على كتمانه".
القمع لم يختفِ
أما الكاتب والصحفي علي الحياني فيشير إلى انتقال الضغط على حرية التعبير من مرحلة التهديد المباشر قبل سنوات، مثل "الأسلحة الكاتمة والاختفاء القسري"، إلى مرحلة جديدة تعتمد على "يافطة الشكاوى القضائية" ضد الصحفيين والناشطين والمواطنين.
ويقول الحياني لوكالة شفق نيوز إن التغيير الذي أعقب عام 2003 كان يفترض أن يوسع هامش الحرية، "لكن الضغوط السياسية والاجتماعية اليوم تضع هذا الهامش في خطر حقيقي".
شكاوى متزايدة
بدورها تؤكد رئيسة مركز النخيل للحريات الصحفية زينب ربيع أن العراقيين حصلوا بعد 2003 على مساحة جيدة للتعبير، لكن هذه المساحة "تتعرض لتضييق مستمر" في الفترة الحالية عبر موجة مرتفعة من الشكاوى والدعاوى ضد الصحفيين والمدونين.
وتلفت ربيع خلال حديثها لوكالة شفق نيوز إلى أن "حق التقاضي" تحول عملياً إلى وسيلة لكبح الأصوات، ما يعكس "بيئة غير صحية للحريات العامة والمدنية".
استهداف مستمر
من جانبه يقدم مدير إعلام مفوضية حقوق الإنسان سرمد البديري قراءة أكثر توازناً، مؤكداً أن العراق شهد تقدماً في الحريات بعد 2003، خصوصاً بعد تظاهرات تشرين 2019 التي دفعت إلى قرارات وتشريعات داعمة لحقوق التعبير.
ومع ذلك، يقر البديري في حديث لوكالة شفق نيوز بأن صناع الرأي والمدافعين عن حقوق الإنسان هم الأكثر عرضة للشكاوى والاستدعاءات، لاسيما عند كشف ملفات فساد، ما يجعلهم عرضة لضغوط سياسية وقانونية، بل وحتى ضغوط عشائرية "تتجاوز الإطار القضائي".
النساء الأكثر تضرراً
اما الناشطة الحقوقية إيناس السهيل فتقدم قراءة معمقة لمشهد الحقوق، مشيرة إلى أن حرية التعبير في العراق تعاني "تآكلاً متعدد الأبعاد" من قيود قانونية تعتمد مواد فضفاضة أو غير محددة، وتجاهل تشريعي لحماية الحريات، وتهديدات أمنية وميليشياوية مع إفلات شبه تام من العقاب، وضغوط اجتماعية وثقافية خاصة على النساء.
وتوضح السهيل لوكالة شفق نيوز أن قوانين الجرائم الإلكترونية والمواد المتعلقة بـ"النظام العام" والأخلاق تُستخدم لتجريم الكلام على الإنترنت، ما يدفع كثيرين إلى الرقابة الذاتية.
أما النساء، فتتعرض أصواتهن لضغط مضاعف بسبب "النظرة المحافظة وقضايا الشرف والأدوار الجندرية"، ما يجبر بعضهن على إخفاء هوياتهن أو تجنب الكلام في قضايا حساسة، وفق السهيل.
وخلصت السهيل إلى أن مواجهة هذا الوضع تتطلب شبكات حماية وتأميناً رقمياً ودعماً قانونياً ونفسياً وتوثيقاً منهجياً لحماية الضحايا.