شفق نيوز/ مع اختتام البابا فرنسيس زيارته التاريخية الى العراق والتي شملت محطات عدة منها إقليم كوردستان، وعودته الى الفاتيكان، بإمكان السلطات في بغداد واربيل ان تنالا الإشادة على نجاحهما في تأمين الزيارة البابوية التاريخية، التي أكدت رسالة رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، حول السلام والتآخي والتعايش وحماية المسيحيين والأقليات عموما، قد وصل صداها وبشكل مدوٍ.
وقدمت زيارة البابا وما تطلبتها من ترتيبات وتنسيق وتعاون على الاصعدة السياسية والامنية واللوجستية والشعبية كافة، ما بين بغداد واربيل، دليلا اضافيا قويا على ان الحكومتين بإمكانهما من خلال التقارب والتعاون، النجاح في مهماتهما قياسا بالصعوبات شبه المستحيلة – على الصعيد الأمني- التي كانت زيارة الحبر الاعظم تحتاجها في بلد كالعراق.
وهذا ما لخصه رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بالدعوة إلى "حوار وطني حقيقي للتوصل لاتفاق نهائي للعلاقة بين الحكومة المركزية وإقليم كوردستان بما يحفظ وحدة الأراضي ومعالجة المشاكل جذرياً".
ومهما يكن، فقد حفلت زيارة البابا خلال جولته العراقية-الكوردية من بغداد الى النجف والموصل وقرقوش واربيل، بالكثير من المواقف اللافتة ووصلت الى مسامع مليارات الناس حول العالم، وليس في العراق وحده.
وفي تصريح من شأنه أن يجذب انتباه العالم اكثر الى العراق، قال البابا في في قداس أقامه الأحد في ملعب فرانسو حريري في أربيل حضره نحو عشرة الاف شخص، "العراق باق دائما معي وفي قلبي، اطلب منكم جميعاً ان تعملوا معاً متحدين من اجل مستقبل سلام وازدهار لا يهمل أحدا ولا يميز أحدا". وكان أيضا لافتة اشارته الى الكورد تحديدا عندما قال "بارك الله العراق، واحيي تحية خاصة من أعماق قلبي السكان الكورد الأعزاء، وأعرب عن شكري للحكومة والسلطات المدنية في إقليم كوردستان على مساهمتها الفعالة".
وفي رسالة ضمنية قد تقرأ على انها موجهة الى السلطة السياسية في العراق، قال "نحن بحاجة أن نزيل من قلوبنا الطمع بالسلطة بينما يعاني إخوتنا وأخواتنا، ففي العراق كثيرون يحملون جراح الحرب والعنف".
وفي موقف تضامني مع المسيحيين ولرفع لمعنوياتهم، قال "أن الكنيسة في العراق حية، والمسيح حي فيها، وصبركم هو ما جعلني أحج إلى العراق"، لكنه حذر ايضا في كلمة له من "حوش البيعة" في مدينة الموصل من ان تراجع أعداد المسيحيين في العراق والشرق الأوسط "ضرر جسيم لا يمكن تقديره بالنسبة للمجتمع الذي وراءهم"، مؤكدا أنه "يضعف النسيج التنوعي للمجتمع بفقدان اي من اعضائه".
وإدراكا منه لأهمية الرموز للمؤمنين من مسلمين ومسيحيين وعمق إيمانهم وتشاركهم في المعاناة التي جلبها الإرهاب، قال البابا إن "مدينة الموصل فيها رمزان يجعلاننا نقترب من الله وهما جامع النوري ومنارة الحدباء".
وللتأكيد على رسالة التعايش والتآخي، فإنه في قداسه في كنيسة الطاهرة في قرقوش وبعدما عبر عن حزنه للدمار، قال "أيها الأحبة هذا الوقت ليس فقط لترميم المباني ولكن قبل كل شي ترميم الأواصر بين الجميع".
وقد تسنى للبابا فرانسيس ان يرى بأم العين صورة من مشهد التعايش بين الطوائف والأقليات عندما وصل الى مطار اربيل، التي كانت رابع محطات جولته، حيث جرت مراسم استقبال رسمية مهيبة واصطف العشرات من مختلف المكونات الدينية والقومية يرتدون زيهم الشعبي ويلوحون بأغصان الزيتون وسعف النخيل ترحيبا بالحبر الأعظم، وذلك بحضور رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس حكومة الاقليم مسرور بارزاني وغيرهما من الشخصيات الدينية والمدنية.
وفي موقف مهم حرص نيجيرفان بارزاني على ان يسمعه البابا بعد استقباله له، قال "نكرر التزامنا الدائم بالسلام والحرية الدينية والأخوة. كما نتذكر أبطال البيشمركة وكل من قدم التضحيات المطلقة للدفاع عن السلام والحرية لجميع العراقيين".
ولهذا السبب تحديدا، حرص البابا خلال قداس اربيل لاحقا على ان يوجه "تحية خاصة من أعماق قلبي السكان الكورد". وهو أمر فعله البابا أيضا خلال لقائه الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني الذي قال "نفتخر بثقافة التعايش السلمي بين شعب كوردستان، وثقافة التعايش عندنا عززت وتعزز التسامح والمودة"، فيما رد البابا التحية بأحسن منها عندما اعلن انه لم ينس كوردستان قائلا: أنتم تستقبلوني الآن استقبلتم المسيحيين في وقت سابق... إنكم، بعد هجمات داعش، حميتم المسيحيين وإستقبلتموهم كإخوة...اشكركم على حفظكم للمكونات كافة"، مردفا بالقول ان "كوردستان اصبحت بيتا وملاذا للمسيحيين".
وخلال زيارته الى مدينة أور التاريخية في محافظة ذي قار، يوم السبت، تلقى البابا هدية تحتوي على رسالة كتبها الإمام علي حينما كان خليفة للمسلمين قبل أكثر من 1400 عام لأحد ولاته، ويقول فيها "الناس نوعان. فهم إما اخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".
وفي اليوم الاول له في بغداد عندما التقى الأساقفة والكهنة والخطباء والمدرسين في كاتدرائية "سيدة النجاة" للسريان الكاثوليك في بغداد، استذكر البابا الجريمة التي ارتكبت في الكنيسة بحق المصلين قبل عشرة أعوام وقال "ذكرنا موتهم جيدا بأن التحريض على الحرب والعنف والكراهية واراقة الدماء لا تتفق مع تعاليم الدين".
وفيما بدا كأنه يدق مبكرا ناقوس الخطر حول هجرة العراقيين، قال البابا "سألتقي في أور مختلف الطوائف وهناك ابلغهم بأنه يجب أن يخدم الدين الجميع"، مضيفا إن الصعاب جزء من حياتكم اليومية أيها العراقيون وجعلت الكثيرين منكم يهاجرون بلدهم، الأمن الاقتصادي والشخصي أدى لنزوح داخلي وهجرة الكثيرين من العراق الى بلاد اخرى.
وعلى غرار كل محطات جولة البابا بأهميتها التاريخية، كانت زيارته الى النجف للقاء المرجع الاعلى السيد علي السيستاني، كأعلى مرجعين في العالم للشيعة والكاثوليك، حيث حرص السيستاني على طمأنة البابا على اهتمام المرجعية الشيعية بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية، مشيرا الى جانب من الدور الذي قامت به المرجعية الدينية في حمايتهم وسائر الذين نالهم الظلم والأذى، في اشارة الى هجمات الارهابيين في السنوات الماضية.
اما الفاتيكان فقد اصدر بيانا حول ما يمكن تسميته بأنه "قمة روحية" في النجف، حيث ذكر ان "اللقاء كان فرصة للبابا لتقديم الشكر إلى السيستاني، لأنه رفع صوته مع الطائفة الشيعية في مواجهة العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الأخيرة، دفاعاً عن الأضعف والأكثر اضطهادا، في إشارة ضمنية على ما يبدو لفتوى الجهاد الكفائي التي اطلقها السيد السيستاني بعدما اجتاح تنظيم داعش مناطق شاسعة من العراق.
وبكل الاحوال، فإن رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي كان أول مستقبلي البابا فرنسيس عندما وصل جوا الجمعة بطائرة لشركة "اليتاليا" من روما الى بغداد، واستبقها الكاظمي بتغريدة قال فيها "بكل محبة وسلام، يستقبل العراق شعبا وحكومة قداسة البابا فرانسيس، ليؤكد عمق الأواصر الإنسانية التي كانت بلاد النهرين وما زالت وستبقى محطتها التاريخية للقاء الأديان والأفكار والقيم البشرية المشتركة"، مرحبا بالبابا "في أرض سومر وبابل وآشور والأنبياء والأولياء".
وبعدما اجرى له استقبالا شعبيا مبهجا شارك فيه موسيقيون ومغنون من مختلف المكونات العراقية، اعلن الكاظمي السادس من مارس من كل عام "يوما وطنيا للتسامح والتعايش في العراق" بعد لقاء السيستاني- البابا في النجف.
وزار البابا بعد وصوله الى بغداد، مقر الرئيس العراقي برهم صالح كما عقد لقاء خاصا مع رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي، الذي رحب بالبابا في "بلاد الرافدين مهد الحضارة الإنسانية، وفي بغداد دار السلام وناصرية أبي الأنبياء ونجف سيد الأولياء وموصل الأصلاء وأربيل المحبة والإباء".
وكان برهم صالح آخر مودعي البابا فرانسيس وهو يغادر جوا صباح الاثنين، وغرد قائلا باللغة الإيطالية، "نودع قداسة البابا فرنسيس الذي كان ضيفا عزيراً في بغداد والنجف وأور واربيل ونينوى، زيارته تمثل رسالة تضامن انسانية كبيرة، وتواجده بيننا اشارة سلام ومحبة، وسيبقى ذلك في قلوب جميع العراقيين".