شفق نيوز/ ليست "وظيفة" عادية تلك التي تؤول إلى الزعيم الشاب بعد سنوات رئاسة طويلة لزعيم مثل مسعود بارزاني. فالأعوام الخمسة التي تولى فيها نيجيرفان بارزاني رئاسة إقليم كوردستان، منذ 10 حزيران/يونيو 2019، لم تكن عادية ولا سهلة. لكنها أظهرت ما يتمتع به من طاقة وقدرة على القيادة وتحمل المسؤولية، حيث قاد سفينة الإقليم عبر العواصف إلى بر الأمان.
تحديات ومسؤولية الإرث
القدوم إلى سلم القيادة يعني مواجهة تحديات كبيرة، لا يدركها إلا القليل من الناس. فلا شك أن السنوات الخمس من ولاية نيجيرفان بارزاني ستترك بصماتها الكبيرة في حياة مكونات إقليم كوردستان عموماً.
لكن الإقليم وشعبه كانوا على دراية تامة بمن هو نيجيرفان بارزاني، فمنذ أن عُين نائباً لرئيس الوزراء عام 1996، ووصولاً إلى توليه للمرة الأولى رئاسة حكومة الإقليم عام 1999، والحكومات التي تلتها بقيادته. المؤكد أنه لولا ما أنجزه نيجيرفان بارزاني في سنوات خدمته للناس والإقليم، كما يقول مراقبون، ما كان ليحظى بالسمعة والثقة الكافيتين لتبوء منصب رئاسة الإقليم.
لم يكن الطريق معبداً بالورود أمام إقليم كوردستان ولا نيجيرفان بارزاني. يجمع المراقبون على نجاحه في فتح كل الأبواب التي كانت مغلقة في العلاقة مع الحكومة في بغداد، أو مع الجوار والمحيط الإقليمي، وربط جسور مع القيادات العالمية.
ثلاثة عقود من العمل السياسي، وإرث تاريخي وعائلي، باعتباره حفيد الملا مصطفى بارزاني، وابن القيادي الكوردي الاستثنائي إدريس بارزاني، كلها ساهمت في تراكم القدوة والخبرة والمثابرة. عندما كانت تنشأ خلافات وتوترات مع طهران، كان لبارزاني دوره الدائم في معالجة الاحتقان، مستفيداً من "خبرته الإيرانية" عندما أمضى جزءاً من حياته في إيران وأتقن اللغة الفارسية.
لعب بارزاني دوراً مهماً في معالجة الإشكاليات الناشئة عن تمركز مجموعات من المعارضة الإيرانية المسلحة في بعض أنحاء الإقليم، الذي كان سبباً أساسياً في تعرض مواطني الإقليم ومصالحه للأذى بسبب خطوات الانتقام "الصاروخية" من جانب إيران.
هدوء بارزاني وهبته لحماية مواطنيه، وعمله الدؤوب على خطوط التواصل مع بغداد وطهران وأنقرة، ساهمت في تعزيز ترطيب الأجواء حول هذه القضية. كما ساهمت شخصيته هذه في تسهيل تفاهم أنقرة-بغداد حول كيفية التعامل مع التحديات التي يمثلها وجود حزب العمال الكوردستاني، وشرعت أبواب التعاون الثلاثي الاقتصادي والسياسي والأمني بين العراق وتركيا والإقليم.
فتح خطوط التواصل "الحرجة"
في مستهل ولايته الرئاسية، قررت حكومة عادل عبد المهدي قطع الرواتب عن موظفي الإقليم بشكل مفاجئ، ثم استقالت في ظل احتجاجات تشرين. نسج بارزاني سريعاً خطوط التواصل الممكنة مع خلفه مصطفى الكاظمي، وأصبح ضيفاً متكرراً في بغداد، لتعبيد الطريق أمام تسوية الأزمات المتراكمة، وهي كثيرة.
كان هدفه دائماً رأب الصدع مع بغداد، سواء فيما يتعلق بأزمة الرواتب المتأخرة، أو مشاكل تصدير النفط من الإقليم وتقاسم المسؤوليات والمداخيل، وأزمة الميزانية الاتحادية. كان دوره مهماً في دفع التقارب لمواجهة التحديات الأمنية التي تفرضها المناطق المتنازع عليها، والتي تتيح لخلايا الإرهاب المس بأمن الإقليم والعراق الاتحادي.
ولم يمض وقت طويل على استفتاء الاستقلال في 2017 عندما تولى بارزاني رئاسة الإقليم، مستكملاً جهوده المكثفة على الصعيدين الداخلي والخارجي، مستغلاً كفاءته وانفتاحه في الحوار والتفاوض لاحتواء تداعيات الاستفتاء الداخلية والإقليمية، بما في ذلك ملف التوتر في العلاقات مع أنقرة. بذل بارزاني جهوداً كبيرة لمنع تدهور العلاقات وتهدئة التوتر، وكانت أنقرة الوجهة الأولى له في زياراته الخارجية عام 2019، مغتنماً فرصة تهنئة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان له بتوليه الرئاسة.
كانت مسيرة بارزاني نحو الرئاسة محفوفة بالنار والأشواك. في عام 2014، خاض معركتي إنقاذ الإقليم من الأزمة المالية وأزمة الرواتب، وتصدى لخطر تنظيم داعش الذي احتل مناطق شاسعة من العراق والإقليم وهدد أربيل. قاد بارزاني هذه المعركة بالتنسيق مع بغداد وطهران وأنقرة وواشنطن وباريس ولندن، لينتهي إلى خاتمة توفر الأمان للإقليم وتبدأ ولايته الرئاسية الجديدة في 2019 بمناخ أكثر إيجابية.
التحدي الإنساني: أزمة النازحين
استهل بارزاني رئاسته بعبء لا مثيل له، تمثل في ظهور نحو مليوني نازح ولاجئ بسبب حرب الإرهاب، وهو رقم كبير بالنظر إلى أن سكان الإقليم يبلغ عددهم نحو 5 ملايين نسمة. احتاج بارزاني إلى تضافر قدرات الإقليم بأكمله واستقطاب الجهود الدولية المكثفة للتعامل مع هذا التحدي الإنساني الاستثنائي.
بدت رئاسة الإقليم "أمانة ثقيلة" بلا شك، وكانت السنوات الخمس منذ بداياتها حافلة بالمصاعب والعقبات، وأيضاً بقدرة بارزاني على تحويلها إلى فرص وأمل. أدار الأزمات المتتالية والناشئة بهدوء ومسؤولية، ونظر إلى الإقليم كجزء مترابط ومتواصل مع محيطه في إطار العراق الاتحادي أو الإطار الإقليمي الأوسع، يتأثر ويؤثر به.
خلال سنوات رئاسته للإقليم، زار بارزاني العاصمة الاتحادية مراراً، لكنه لم يكن يذهب بصفته ضيفاً زائراً، بل تطبيقا لرؤيته بأن أربيل وبغداد هما عمق استراتيجي لبعضهما. عندما يكون فيها، لا يكتفي بلقاء رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان، بل تجد أبواب القوى السياسية الرئيسية والكتل البرلمانية تسارع لفتح أبواب اللقاء معه، للتشاور والتنسيق والتفاهم، بما يقود إلى تنقية الأجواء مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، ومع رئاسة الإقليم والحكومة، ومع الإقليم عموماً.
وحدة الصف الكوردي
عندما كانت الخلافات بين القوى الكوردية تتعقد، وضع بارزاني نفسه على مسافة واحدة من الجميع. تراه في أربيل والسليمانية ودهوك وغيرها، يلتقي ويحاور وينسج خيوط التفاهمات، بما في ذلك عندما توترت علاقات الاتحاد الوطني الكوردستاني مع حكومة الإقليم، مطبقا رؤيته بأن الرئاسة هي البيت الكوردي الحاضن للجميع بحثاً عن الحلول.
رئاسة الإقليم تؤمن بأنه كلما كان البيت الكوردي موحداً، كلما حقق المكاسب لكل الأطراف. وكلما كان مشتتاً أو متنابذاً، حلت الانتكاسات والأضرار على الجميع.
التهدئة الاقليمية والعلاقة الدولية
وفي الصفحة الجديدة التي فتحت بين أنقرة وبغداد، كان بارزاني حاضراً. فهو كان دائماً مؤمناً بأن العلاقات الجيدة مع تركيا هي في مصلحة كل شعوب الإقليم والعراقيين عموماً، ولهذا لم يكن غريباً أن يختار الرئيس أردوغان أربيل لتكون محطته الحتمية بعد زيارته إلى بغداد.
بهذا المعنى، فإن بارزاني بشخصه وأدواره لم يكن منكفئاً على الداخل فقط، بل كان حضوره الخارجي معترفاً به بشكل لا لبس فيه، وهو ما تحقق بسبب حركته وأفكاره التي يكافح من أجلها منذ سنوات. كما تقول رئاسة الإقليم، فإن بارزاني سعى لتطوير وتوطيد العملية السياسية من خلال انتهاج نهج شامل توافقي في الحكم، وتتمثل رؤيته في وطن ديمقراطي مسالم ومستقر من الناحية السياسية، يؤثر إيجابياً على السلام والاستقرار والرخاء في العراق والشرق الأوسط.
باريس، من أكثر العواصم الغربية قرباً إلى الإقليم والكورد، زارها بارزاني رسمياً أربع مرات خلال رئاسة إيمانويل ماكرون، الذي نسج معه علاقة خاصة، وكان آخرها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. حتى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي من الصعب التفاهم معه، تمكن بارزاني من ترتيب لقاء معه خلال مؤتمر دافوس عام 2020. أما علاقته مع أنقرة، فتمثلت بزيارة أردوغان إلى بغداد وأربيل معاً، وفي زيارات بارزاني إلى أنقرة. في العلاقات العراقية المعقدة مع الولايات المتحدة، كان بارزاني دائماً من دعاة الحوار والتفاهم والتعامل مع مستقبل الحضور الأمريكي بما تستدعيه مصالح بغداد وأربيل والمنطقة. ولهذا، كان الوفد العراقي الذي رافق رئيس الوزراء الاتحادي محمد شياع السوداني إلى واشنطن مؤخراً يضم ممثلين عن الإقليم.
في هذه الزيارات واللقاءات، وغيرها الكثير، بما في ذلك مشاركته في استقبال البابا فرانسيس خلال زيارته إلى العراق وكوردستان، أو في القمة العالمية للمناخ في دبي، ولقاءاته مع العديد من الزعماء وكبار الشخصيات العالمية، كان بارزاني يعامل كـ"رئيس دولة". لكن هذا ليس محط اهتمامه الأساسي، إذ يهتم بما يعنيه ذلك لمصالح الإقليم ومكوناته.
من بين المهمات الخارجية التي قام بها بارزاني، وعكست رؤيته وطبيعة حركته، حضوره النشط في مؤتمر ميونيخ للأمن قبل أربعة أشهر. هذا يعكس شخصيته القيادية وأسلوبه الدبلوماسي الذي يساهم في تحسين صورة الإقليم والعراق كساحة للتلاقي والحلول. خلال ثلاثة أيام، عقد بارزاني أكثر من 20 لقاء ومحادثة مع كبار المسؤولين من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والفاتيكان وتركيا وقطر والبحرين وألمانيا والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي واليونان والنمسا وأرمينيا وإستونيا وغيرها، فيما كانت حرب غزة تطغى على اهتمامات العالم والمخاوف الإقليمية.
دور الإقليم في الشرق الأوسط
اختصر المتحدث باسم رئاسة الإقليم، دلشاد شهاب، ما جرى في ميونيخ قائلاً: "إقليم كوردستان يعد لاعباً أساسياً في معادلات الشرق الأوسط بشكل عام، وفي العراق بشكل خاص، وهو أمر مهم لدور وكيان الإقليم".
لم تبالغ إذاعة "آر اف أي" الفرنسية عندما وصفت بارزاني خلال زيارته الأخيرة إلى باريس، بأنه الزعيم الكوردي الذي أعاد ربط الإقليم بالعالم. فمن المعروف أن خلال السنوات العديدة من مسؤولية بارزاني سواء في الرئاسة الآن، أو في الحكومة سابقاً، فتحت أكثر من 30 دولة ممثليات لها في إقليم كردستان.
في مقابلة له قبل نحو عامين، تحدث بارزاني عن جوانب مهمة في شخصيته وأفكاره، وأوضح أن عمه الزعيم الكوردي مسعود بارزاني كان ملهمه ومعلمه كقائد وعم ووالد. تعلم من الزعيم التاريخي الملا مصطفى بارزاني النضال من أجل حقوق الشعب وخدمة الوطن، ومن والده إدريس بارزاني العمل على تحقيق التقارب بين الشعبين الكوردي والعربي.
بشكل ما، يختصر نيجيرفان بارزاني كل هذا الإرث، وكانت سنواته الخمس في الرئاسة تأكيداً على أن عباءة القيادة التي آلت إليه لم تخيب آمال وتطلعات الملايين من مواطنيه ومحبيه.