9-3-2018
06:08
شفق نيوز/ رغم أن العادة جرت أن يرسم الأطفال الذين مروا بأهوال الحرب صور ما عايشوه من دمار وعنف، لكن من يصورون أنفسهم في أدوار الجناة منهم قلة قليلة.
فإن قلة لا تذكر منهم يصورون أنفسهم في دور الفاعلين.
من هؤلاء صبي عمره 14 عاما، وصل حديثا إلى مخيم روانكة قرب دهوك باقليم كوردستان، فقد كان ما رسم المرة تلو المرة من أحزمة ناسفة وسيارات ملغومة وعبوات ناسفة هو ما صنعه بنفسه واستخدمه تنظيم الدولة.
ويظهر في أحد رسوماته وهو يقتل رجلا بوابل من الرصاص. ويقول إنه فعل ذلك في الواقع خلال السنوات الثلاث التي قضاها كطفل مقاتل جنده التنظيم قسرا.
ويقول الصبي إنه تعرض للخطف من مدينته الايزيدية في شمال العراق، واعتاد سماع دوي القنابل المتساقطة على الرقة، معقل التنظيم الرئيسي في سوريا، مع اقتراب القوات منه في العام الماضي.
قال وهو يشير إلى جرح رصاصة في مقدمة الساق: "هنا أصبت بالرصاص وأنا أحارب قوات سوريا الديمقراطية"، مشيرا إلى المجموعة المدعومة من الولايات المتحدة.
وأخفت "رويترز" اسم الصبي؛ حتى لا يتعرض للعقاب.
ويمثل إتاحة الوقت له للرسم والحديث عن تجربته جزءا من برنامج العلاج لمساعدته على مواصلة حياته وحمايته والآخرين من أذى دائم.
وتشير تقديرات إلى أن تنظيم الدولة استخدم مئات الأطفال كمقاتلين، منهم صبية انضموا إليه مع أسرهم أو سلمتهم أسرهم، ومنهم أبناء المقاتلين الأجانب الذين أعدهم التنظيم منذ ولادتهم؛ للحفاظ على استمرارية أفكاره العقائدية.
وقد حذر خبراء من أن الأطفال، الذين تم تلقينهم هذه الأفكار، وبدأوا يهربون من قبضة التنظيم مع تراخي قبضته على الأراضي التي كانت تحت سيطرته العام الماضي، قد يشكلون خطرا مستمرا على الأمن على المستوى الإقليمي وفي الغرب إذا لم تتم إعادة تأهيلهم.
الاضطهاد مرتين
المتاح لهؤلاء من رعاية متخصصة قليل في العراق، حيث يبلغ الحد الأدنى لسن المسؤولية الجنائية تسع سنوات.
وأوضح تقرير حديث لمنظمة هيومن رايتس ووتش، التي تتخذ من نيويورك مقرا لها، أن الحكومة احتجزت عشرات الأطفال، وحاكمتهم بسبب الشبهات التي ربطتهم بالتنظيم.
ويؤكد الطبيب النفسي نايف جوردو قاسم، الذي يعالج الأطفال في مخيم روانكة للاجئين بالقرب من دهوك، أنهم "ضحايا لا مجرمون"، ويجب التعامل معهم على هذا الأساس.
ويسلط المدرس الايزيدي، هوشيار خديدة سليمان، الضوء على حجم هذه المهمة بروايته حكاية صبي من تلاميذه التأم شمله بأسرته خلال الخريف.
يقول سليمان: "كان يصرخ أنهم كفار، وأنه يفضل الموت بدلا من يكون واحدا منهم".
وعندما اجتاح التنظيم المدن والقرى اليزيدية في عام 2014، بلغ عدد من قتلهم واستعبدهم أكثر من 9000 من البالغين والأطفال، فيما وصفته الأمم المتحدة بحملة إبادة جماعية استهدفت تلك الأقلية التي يصفها التنظيم بالكفر.
باع التنظيم فتيات ونساء وزوج بعضهن لمقاتليه، ودرب الصبية لضمهم إلى صفوف من وصفهم بـ"أشبال الخلافة"، ونشر مقاطع فيديو لهم وهم ينفذون عمليات إعدام.
وعاد معظم الأطفال لا إلى بيوتهم، بل إلى مخيمات النازحين في شمال العراق، حيث يعيشون مع أسرهم، بعد أن أصبح آباؤهم في عداد المفقودين أو تم قتلهم.
قال قاسم: "كل شيء تغير أثناء وقتهم بيد داعش... إذا (كانوا) يتذكروا أي شيء من حياتهم قبل".
وما يزيد الطين بلة وطأة ما مروا به.
وأضاف قاسم: "هؤلاء الأطفال شافو (شاهدوا) داعش يقتلون عائلاتهم أو خطفهم داعش وضربهم وغسل دماغهم، وفي منهم شهدوا ذبح. أجبروهم داعش على القتل أو اغتصبهم عدة مرات لسنوات".
ويعمل قاسم لحساب منظمة ياهاد إن أونوم، وهي ضمن قلة من المنظمات الأهلية الدولية التي أنشأت مركز الأطفال في المخيم، حيث يتلقى الأطفال علاجا نفسيا يتراوح من جلسات التحدث إلى العلاج بالفن.
وقال قاسم إنهم يأتون أيضا للعب، "ليتذكروا كيف يكونون أطفالا".
ذكريات
يعمل مركز قاسم، الذي بدأ عمله منذ ستة أشهر، على معالجة 123 طفلا في الوقت الحالي بين بنات وصبية، كلهم دون سن ثمانية عشرة، وعادوا جميعا في الآونة الأخيرة من أراض كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة .
قال قاسم: "أول ما يعودون من يد داعش، الأطفال يمكن أن يكونوا غاضبين وعنيفين ومشوشين". مضيفا أن كثيرين منهم أجبروا على نسيان لغتهم الكوردية الأصلية.
وأضاف: "سرعان ما يصبح هذا القلق والاكتئاب العميق، حيث تبدأ الصدمة".
ويتولى المركز إعداد برنامج علاجي لكل طفل يشتمل على جلسات علاج فردية وجماعية.
وقال قاسم: "نعمل على التراجع بالأطفال من غسيل الدماغ الذي مروا به على سنوات".
وأضاف: "نريد أن ينسوا السنوات الماضية ويبدأوا من جديد".
وقال إن كل الأطفال الذين عالجهم نجحوا في التخلص من الأفكار التي تم تلقينها لهم، مضيفا: "ماكو (ما من) طفل لا نقدر نساعده".
وتعدّ الحداثة النسبية لبرامج تغيير الأفكار المتطرفة سببا لاختلاف الآراء حول مدى فاعليتها. وتقول ليلى علي، المتحدثة باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في العراق، التي تدعم مثل هذه الخدمات، إن إعادة التأهيل "أمر ممكن بكل تأكيد".
ومن الصعب الوصول إلى بعض الأطفال دون غيرهم، لا سيما من نسوا الحياة قبل التنظيم.
أحد هؤلاء طفل عمره عشر سنوات، تم تهريبه من سوريا قبل ثلاثة أسابيع ونصف الأسبوع، ويعيش منذ ذلك الحين مع عمه في المخيم. كان خجولا في البداية، ثم تحول إلى شعلة من النشاط عند وصف ما حققه من "إنجازات" خلال فترة التدريب التي قضاها كمقاتل في دير الزور في سوريا، وقال إنه ليس واثقا مما إذا كانت حياته الحالية أفضل حالا.
يقول قاسم إنه يبدي حيرة فيما إذا كان يجب عليه أن يشجب ما تعلمه من تنظيم الدولة. ويتسلل هو وأطفال آخرون للصلاة في دورات المياه؛ إذ إنهم غير مقتنعين بأنهم لن يواجهوا مشاكل مع التنظيم لعدم أداء واجباتهم الدينية.
ويقول إنه يأمل أن يعود هذا الطفل إلى حالته الطبيعية قريبا.
ويواجه البعض إذلالا لدى عودته. فقد قال مقاتل سابق أصبح الآن في الخامسة عشرة من عمره: "مجبور عيش مع أقاربي؛ لأن والدي قالا إنهما لن يقبلاني أبدا؛ بسبب ما عملت مع داعش".
وقاسم هو الطبيب النفسي الوحيد في مركزه، والمهمة الملقاة على عاتقه ثقيلة. إذ يقول: "صعب جدا أن أسمع الأطفال يحكون بهذه قصصهم... الاغتصاب، القتال، الذبح... في حياتي لم أسمع أبدا شيئا مثل هذه الأهوال".
وفي ضوء عدم كفاية المتاح من الأموال أو حتى خارطة طريق، تدخل بعض أفراد المجتمع للمساعدة بطرقهم الخاصة.
ويهدف سليمان لإعادة تأهيل الأطفال الايزيديين في مخيم شاريا بالقرب من دهوك بإعادة الصلة بينهم وبين ديانتهم الايزيدية.
وفي عصر يوم مطير في أواخر فبراير/ شباط، جاء الأطفال إلى فصلهم الدراسي بملابسهم التقليدية التي سلمها لهم فللبنات فستان وشال أبيض وعقال بخطوط سوداء وذهبية، وللصبية سراويل وصدرية باللون ذاته مع كوفية باللونين الأحمر والأبيض.
وقال سليمان: "شيء بسيط، لكن الملابس هي تذكيرهم أصولهم".