شفق نيوز- ترجمة خاصة
سلط موقع "ميدل إيست آي" البريطاني الضوء على حضارة العراق المعاصرة والتاريخية، وكيف كان يترابط من خلال "الشرايين القديمة" المتمثلة بأنهاره وسفنه البخارية.
واستهل التقرير الذي ترجمته وكالة شفق نيوز، بالإشارة إلى المقبرة "الإنجليكانية" القديمة في حي باب الشرقي في بغداد، لافتاً إلى أن معظم الزوار يأتون إليها بحثاً عن قبر جيرترود بيل، "ملكة الصحراء" كما خلدتها هوليوود، والتي يتم تذكرها سواء من باب الإعجاب أو النقد، لدورها في تشكيل العراق الحديث بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية.
وتابع التقرير قائلاً، إنه بالقرب من قبر بيل جيرترود، يتواجد شاهد قبر قديم للضابط البريطاني تشارلز هنري كاولي الذي ولد في بغداد عام 1872، وقتل خلال معركة بالقرب من الكوت في العام 1916، مضيفاً أنه برغم أن حياة كاولي أقل شهرة بكثير من جيرترود بيل، إلا أنها تظهر كيف كان العراق يتموضع وسط شبكة تجارية معززة بالأنهار التي ساهمت في تقوية التجارة، وساهمت في المصير السياسي للمنطقة.
وبحسب التقرير فإن قصة الضابط كاولي تتعارض أيضاً مع رواية جيرترود بيل بأن الشرق الأوسط كان بمثابة قائمة فارغة تنتظر الاختراع الأوروبي لها بعد الحرب العالمية الأولى.
وبين أن هذا التاريخ يطرح أيضاً أهمية معاصرة بعد التعليقات المثيرة وغير الصحيحة التي أدلى بها السفير توم باراك في أيلول/سبتمبر الماضي عندما قال إنه "لا يوجد شرق أوسط. هناك قبائل وقرى"، وذلك بحجة أن الدول القومية الحديثة كانت مجرد اختراعات استعمارية.
وأضاف باراك أن هناك من ينتقد مستوطنات ما بعد الحرب العالمية الأولى والذين يجادلون بأن اتفاق "سايكس بيكو" فرض بنيات دول مصطنعة ساهمت في عدم الاستقرار لاحقاً، لافتاً إلى أنها تمثل إشارة إلى أن المجتمعات التي فرضت عليها هذه البنى كانت بدائية أو غير متطورة إلى حد ما.
إلا أن التقرير البريطاني قال إن ما يتجاهله هذا الرأي هو أنه في حين تم رسم حدود "سايكس بيكو" لخدمة المصالح الإمبريالية الأوروبية، لم تستحضر الحضارات التي قامت في صحاري الرمال.
واستعان التقرير بالعراق كنموذج لذلك، وقال إن تاريخ العراق الطويل، المتميز بتعدد اللغات وتجارته والعلم، كتب قبل وقت طويل من وصول رسامي الخرائط الأوروبيين، وهو يدحض بشكل مباشر هذه المحاولة المضللة، مشيراً أيضاً إلى أن آراء كاولي التي طرحها توم باراك دُحضت منذ فترة طويلة من قبل المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد في نقده للاستشراق.
وقال التقرير إن اسم الضابط كاولي قد لا ينال الاعتراف الفوري بأهميته، على غرار لورانس العرب أو جيرترود بيل، إلا أن التدقيق في حياته يفتح نافذة على حقبة كان فيها دجلة والفرات بمثابة الطرق السريعة في الشرق الأوسط، والسيطرة على مياهها تعني السيطرة على الأسواق والدبلوماسية والسلطة.
وأوضح التقرير أن الضابط كاولي كان ابن قبطان بارز في "شركة الفرات ودجلة للملاحة البخارية" ووالدته من أصل أرمني فارسي، وقد نشأ على ضفاف نهر دجلة، وترعرع بين قباطنة السفن البخارية وملاحي الأنهار والتجار والمترجمين الفوريين، وفهم أن الأنهار هي شريان الحياة الاقتصادي للعراق.
وتابع التقرير أن كاولي تلقى تعليمه في ليفربول، ثم عاد إلى بغداد بعد وفاة والده للعمل في تجارة الأنهار، وأصبح في نهاية المطاف قبطاناً كبيراً يعمل لصالح الشركة مع حلول الحرب العالمية الأولى، لافتاً إلى أنه تم تكليفه بنقل الجنود والإمدادات البريطانية إلى دجلة، وأصبح يشكل تهديداً مستمراً للقوات العثمانية، التي وصفته بأنه "قرصان البصرة".
ولفت التقرير إلى أن كاولي كان يتقن اللغة العربية والعديد من اللغات الأخرى، وانتقل بسهولة بين الثقافات، مجسداً تعددية عالمية قديمة في بلاد ما بين النهرين تحددها التجارة بدلاً من الحدود.
وتابع أنه خلال مهمة يائسة في عام 1916 لكسر حصار الكوت، تعرضت بريطانيا لهزيمة عسكرية، وجرى نصب كمين لسفينة كاولي حيث تم إلقاء القبض عليه وإعدامه.
وذكر أن شاهد قبر كاولي الذي أقامته والدته، يمثل مفتاحاً لفصل مهمل من التاريخ العراقي، موضحاً أنه يذكر بمرحلة كانت فيه الهويات فضفاضة وتتداخل الأديان والأعراق؛ وعندما تمكنت ابنة اللاجئين الأرمن، من الزواج من قبطان النهر الإنجلو-إيرلندي؛ وعندما كانت السفن البخارية تربط التجارة والسفر والمراسلات وحتى الحرب.
ولفت إلى أنه قبل وقت طويل من عصر شركة "أرامكس" والإنترنت وسلاسل التوريد في كل أنحاء العالم، فإن شركة دجلة والفرات سيطرت على الأنهار والتجارة الإقليمية في بلاد ما بين النهرين، وكانت بمثابة الشريان الذي تتدفق من خلاله البضائع والأشخاص والنفوذ، وتربك الأجزاء البعيدة من بريطانيا العظمى الإمبريالية والاستعمارية وقتها.
وبحسب التقرير، فإن هذه الشرايين جعلت من العراق يتمتع بالثقل التجاري، وبمثابة مركز لوجستياً تربط مياهه الهند وبلاد فارس والخليج وشرق الأناضول، لافتاً إلى أن نفس الشبكات العراق ربطت بشكل غير مباشر بمدن الموانئ مثل إزمير والاسكندرية وبوشهر ويافا، والتي كانت مراكز حضرية كان تجارها ونقاباتها محركات للتبادل الثقافي، وهي مجتمعات لم تكن منعزلة وإنما تتميز بتعدد لغاتها ومنخرطة في الأسواق العالمية، وساهمت في تشكيل طبقة تجارية تحكم تجارة شرق البحر الأبيض المتوسط قبل وقت طويل من فرض القوى الأوروبية النماذج الإدارية.
وأشار التقرير إلى أن الحياة الثقافية للعراق لم تكن تنتظر التنوير الأوروبي، مضيفاً أنه قبل ألف عام من ارتداء الملك فيصل الأول قبعة غربية الطراز معتبراً أنها رمز للتطور، كتب الشاعر المتنبي قصائد عن صعود الحكام وسقوطهم وطبيعة السلطة، مشيراً إلى أن الواقع يظهر أن العراقيين لم يكونوا متلقين سلبيين للتاريخ، وإنما مترجمين نشطين للحظتهم السياسية.
وبحسب التقرير فإن شركة الملاحة البخارية كانت جزءاً من تحول اجتماعي واقتصادي عميق أثر على الذين كسبوا رزقهم من الأنهار، مشيراً على سبيل المثال إلى أن في تكريت كانوا يصنعون زوارق صغيرة، لكن مع إدخال القوارب البخارية، اختفت سبل العيش هذه، مما أدى إلى هجرة كبيرة إلى بغداد، مما يعكس مصير السكان الريفيين الآخرين المشردين في جميع أنحاء العراق.
وأضاف أنه مع تحولهم من التجارة القائمة على الأنهار إلى المهن الحضرية، اضطر العراقيون إلى التحديث بدلاً من البقاء ملزمين بهويات "قبلية" ثابتة.
وتابع التقرير أنه خلال هذه الفترة، شجع ضابط من تكريت سكان بلدته على الانضمام إلى الجيش والقوات المسلحة، وكان من بين هؤلاء المجندين أحمد حسن البكر، الذي قاد الانقلاب العسكري عام 1968، وابن عمه، صدام حسين الذي استولى في نهاية المطاف على الحكم لنفسه عام 1979.
وبحسب التقرير، فإن مسارات هؤلاء الأشخاص، تظهر كيف أعاد النزوح الاقتصادي توجيه رأس المال البشري نحو مؤسسات الدولة، مما أثر على النظام السياسي بعد عقود، وهو تطور أكثر تعقيداً من الصورة الكاريكاتيرية لمنطقة تحددها "القبائل والقرى" فقط.
لكن التقرير قال إن هذه الأنهار التي كانت قوية في يوم من الأيام لم تعد تفيض بنفس القوة، بسبب ظهور محركات الاحتراق الداخلي والتغير المناخي وتحويلات المياه من المنبع والجفاف، ما حول التجارة إلى الطرقات البرية.
وأضاف أن "ما لم يتضاءل، هو السجل التاريخي الطويل للعراق، الذي يعود إلى آلاف السنين إلى عصر المسمارية والرياضيات والشريعة القانونية، ويكذب فكرة أن الشرق الأوسط يفتقر إلى مجتمعات أو اقتصادات أو هويات سياسية متماسكة قبل التدخل الأوروبي".
وتابع أن "ماضي العراق يذكرنا بأن دول المنطقة ليست واجهات اصطناعية، ولكنها مجتمعات تاريخية مع فترة قصيرة نسبياً من الحكم الاستعماري".
وأكمل أن شركة دجلة والفرات باتت منسية الآن وحل مكانها الخدمات اللوجستية الحديثة والتجارة الرقمية، لكن إرث الشركة لا يزال محفوراً على شواهد القبور في بغداد، إلى جانب قبر بيل.
وأوضح أن قبر الضابط كاولي، والعالم الضائع الذي يمثله، ينذر بحقيقة تظهر اليوم وهي أن تماسك العراق، وتماسك المنطقة الأوسع، قد تطور دائماً بشكل عضوي، ليس عن طريق النفط أو الحرب أو الإمبراطورية، ولكن من خلال آثارها الجانبية لربط الشعوب والأفكار والاقتصادات.
وخلص إلى أن "قصة أنهار العراق هي تذكير بأن قدرة الشرق الأوسط على التكيف كانت دائماً تياره المحدد".