شفق نيوز- دمشق
لا يزال "الشارع المستقيم" في دمشق القديمة يشكّل وثيقة حجرية حية، ومنارة تاريخية تروي ألفي عام من العظمة. فهو أحد أقدم الشوارع المأهولة باستمرار على وجه الأرض، والذي حمل في العهد الروماني اسمه المهيب، "فيا ريكتا" (Via Recta).
وكلمة "فيا ريكتا" (Via Recta) هي كلمة لاتينية تعني حرفيًا "الطريق المستقيم" أو "الشارع القويم"، حيث كان هذا الاسم يُطلق في العهد الروماني على الشارع الرئيسي في دمشق القديمة، وهو نفسه الذي نعرفه اليوم باسم الشارع المستقيم.
وسمّاه الرومان بهذا الاسم لأن تصميم المدن الرومانية القديمة كان يعتمد على شبكة من الطرق المتعامدة والمستقيمة هندسيًا، وكان "فيا ريكتا" هو المحور الأساسي الذي يقسم المدينة إلى قسمين.
ويعتبر "فيا ريكتا" أو الشارع المستقيم في دمشق، من أقدم الطرق التي ما تزال مأهولة ومستخدمة منذ نحو ألفي عام، حين أمر الإمبراطور سبتيموس سيفيروس ببنائه في القرن الأول الميلادي ليكون شريان المدينة الذي لا يجفّ.
ويعد الشارع ممراً ممتداً بطول يناهز 1500 متر، يمضي الشارع كقوس تاريخي يربط بين باب شرقي وباب الجابية، مُشكّلاً المحور الذي انتظمت حوله كل فصول دمشق، وعلى مقربة من منتصفه، شُيِّد الجامع الأموي الكبير، مكرساً هذا المسار كمركز للحياة الدينية والثقافية منذ فجر الإسلام، ومع مرور القرون، تراكمت الأبنية وتضيّق العرض الروماني الفسيح، لكنه احتفظ بمكانته، شاهداً على تعاقب الرومان والبيزنطيين والأمويين والمماليك والعثمانيين.
إن السر الأعظم للشارع المستقيم يكمن في كونه نقطة التقاء روحية، فقد احتضنت ضفتاه القصص الأكثر قدسية؛ إذ سار عليه بولس الرسول بعد عودة البصر إليه، وما زالت كنائس المشرق القديمة تطل بأناقة على الخانات والمساجد، لتروي فصلاً منيعاً من التعايش والتسامح الذي لطالما ميّز بلاد الشام، الشارع هنا لا يفصل، بل يجمع التاريخ بشتى دياناته وثقافاته تحت سقف سماوي واحد.
وقبل الأحداث القاسية التي مرت على دمشق، كان الشارع المستقيم مزاراً عالمياً يغري السياح بالتصوير وسماع الحكايات. واليوم، ورغم التحديات التي أغلقت بعض المتاجر وأهلكت أجزاء تتطلب الترميم العاجل، فإن الشريان التجاري ما زال متدفقاً، ومتاجره تعرض نفائس الصناعة الشامية الأصيلة؛ من النحاسيات المشغولة بدقة، والفضيات، مروراً بـالأقمشة المطرزة التي تختزل هوية دمشق، وصولاً إلى عبق العطور والصابون والبهارات الشهية.
وعن السوق، يقول "أبو سليم"، الذي ورث مهنة بيع النحاسيات أباً عن جد، لوكالة شفق نيوز، إن "الشارع تغيّر، لكن الزوار يعودون، لأن هذا المكان هو ذاكرة دمشق التي لا تشيخ، ويجمع تحت ظلاله الدين، والتاريخ، والتجارة، وحتى الحكايات الشعبية".
ويضيف أبو سليم: "الشارع المستقيم؛ إنه سجل دمشق المفتوح، الذي يؤكد قدرة هذه المدينة على استيعاب التاريخ ومقاومة الزمن".