شفق نيوز/ يتخوف مواطنون عراقيون من الاستمرار في إيداع أموالهم بالمصارف المحلية، خشية عدم قدرتهم لاحقاً على سحبها نتيجة العقوبات الأميركية التي تفرض بين الحين والآخر على المصارف العاملة داخل البلاد.
وتنتشر في العراق العديد من المصارف الحكومية والأهلية، إذ يبلغ عددها في عموم البلاد 78 مصرفاً، منها 7 مصارف حكومية أحدها إسلامي، بالإضافة إلى 28 مصرفاً إسلامياً أهلياً، و25 مصرفاً تجارياً تضم فرعين في دولتيّ الإمارات والسعودية، إضافة إلى 16 مصرفاً تجارياً أجنبياً ومصرفين إسلاميين أجنبيين، ولدى هذه المصارف 891 فرعاً تشكلت أغلبها عقب العام 2003، إلى جانب فتح نافذة بيع العملة في البنك المركزي العراقي.
أسباب العزوف
ويعزو الخبير الاقتصادي، عمر الحلبوسي عزوف المواطنين عن إيداع أموالهم في المصارف العراقية لمجموعة عوامل، أولها "عدم ثقة المواطن بالقطاع المصرفي العراقي، خصوصاً بعد انهيار مجموعة من المصارف والتي مضى عليها عدة سنوات، دون إعادة أموال المودعين رغم تقديمهم شكاوى للبنك المركزي والقضاء العراقي".
ويضيف الحلبوسي في حديث لوكالة شفق نيوز "كما أن ضعف البنك المركزي العراقي في ضبط عمل المصارف والرقابة عليها، شكّل عاملاً آخر لاكتناز المواطنين أموالهم في المنازل دون إيداعها في المصارف، يضاف لذلك أن ملكية المصارف الخاصة لأشخاص متهمين بالفساد أو جهات خارجية يعد عاملاً من عوامل عزوف المواطن عن إيداع أمواله في الجهاز المصرفي".
ويتابع "ثم جاءت العقوبات الأميركية على مجموعة من المصارف الخاصة، لتشكل عاملاً آخر لعزوف المواطنين عن التعامل مع المصارف وإيداع أموالهم فيها خوفاً من تجميد أموال هذه المصارف أو تعثرها وعدم قدرتها على إعادة أموال المودعين، كون المصارف تعتمد على الدولار في أساس عملها، ولا يوجد لديها تنوع استثماري يمكن أن يعوّض ذلك".
"وبناءً على ما سبق، فإن عزوف المواطنين عن إيداع أموالهم في المصارف سوف يزداد مع زيادة العقوبات على المصارف"، يقول الحلبوسي.
يذكر أن وزارة الخزانة الأميركية كانت قد فرضت عقوبات على 32 مصرفاً خاصاً من أصل 72 مصرفاً، وتقسم العقوبات التي فرضتها وزارة الخزانة، وفق الحلبوسي، إلى نوعين "الأول عقوبة المنع من التعامل بالدولار بينما يمكن لهذه المصارف أن تتعامل بالعملات الأخرى".
ويضيف "والنوع الثاني من العقوبات هو قيام مكتب إدارة الأصول الأجنبية في وزارة الخزانة بفرض عقوبات على المصارف آخرها (مصرف الهدى الإسلامي)، ويعني عدم قدرة هذا المصرف من التعامل بالدولار، وكذلك لا يمكن للمصارف الأجنبية التعامل معه بسبب انتهاكاته الخطيرة".
ويوضح أن "العقوبات من قبل وزارة الخزانة الأميركية على المصارف تأتي بسبب ارتكابها جرائم مالية منها (غسيل الأموال، تمويل الإرهاب، التحايل على العقوبات الأميركية، تهريب الدولار، استخدام الفواتير التجارية المزوّرة)".
ويشير إلى أن "وزارة الخزانة الأميركية، كانت قد وجّهت البنك المركزي العراقي بضرورة مراقبة عمل المصارف ومتابعة أنشطتها ومعاقبة مرتكبي الجرائم المالية".
ويرى الحلبوسي أن "البنك المركزي العراقي تغاضى عن هذا الموضوع ما حدا بوزارة الخزانة الأميركية إلى فرض عقوبات على هذه المصارف، علماً أن قائمة العقوبات قابلة للزيادة وهناك مصارف سوف تعاقب قريباً لارتكابها جرائم مالية، كما ستفرض عقوبات على شركات وأفراد يشكلون واجهات لجهات متهمة بالإرهاب".
ويرجّح الخبير الاقتصادي، أن "أول الجهات الحكومية التي ستعاقب هي البنك المركزي العراقي مع مجموعة من الفاعلين به، وهو ما سيؤدي إلى حدوث نكسة اقتصادية ومالية خطيرة".
ويبيّن الحلبوسي، أن "كمية النقد المصدّر من البنك المركزي 102 تريليون دينار عراقي لغاية نهاية شهر كانون الأول/ ديسمبر 2023، بواقع 60 تريليون دينار هو حجم الودائع في المصارف الحكومية، و13 تريليون دينار الودائع لدى المصارف الخاصة، و93 تريليون دينار حجم كمية النقد خارج الجهاز المصرفي".
اختلال الشمول المالي
ويعاني النظام المصرفي العراقي من عدم ثقة المواطنين به، كما أن الشمول المالي في العراق يواجه تحديات كبيرة، تتعلق بعدم إمكانية المواطن من تحقيق طموحه المالي لدى المصارف العراقية.
وبما أن العراق يعاني من اختلال الشمول المالي، "فإن ذلك يعيق علمياً وعملياً أي محاولة للتنمية المستدامة في ظل تنامي سوء الإدارة وتطبيق القرارات والقوانين وفق الرغبات السياسية"، بحسب الباحث في الشأن الاقتصادي، أحمد عيد.
ويوضح عيد لوكالة شفق نيوز، أن "الإيداع النقدي للمواطنين لدى المصارف يتأثر بعدة عوامل، في مقدمتها عدم وجود حوكمة ورقابة رادعة أمام الخروقات القانونية في صرف الأموال، فضلاً عن نسب الفوائد المتعلقة بالقروض".
ويتابع "وكذلك تأخر الأنشطة التكنولوجية الحديثة في تمشية الأمور المالية، وعدم تطبيق الدفع الإلكتروني بالطريقة الصحيحة، حيث مازالت عمليات الدفع الإكتروني متأخرة، ولا تتوفر فيها عروض مغرية بالنسبة للمواطنين".
ويؤكد الباحث في الشأن الاقتصادي، أن "المواطنين يفضلون توفير واكتناز أموالهم في البيوت عن إيداعها لدى المصارف، لأن غالبية المصارف في العراق غير موثوقة وتعود لجهات متنفذة مما يجعلها معرضة للإفلاس في أي وقت، أما المصارف الحكومية فإنها لا تقدم العروض والتسهيلات إلى المواطنين من أجل دفع رغباتهم إلى الإيداع".
الإيداع بالدولار والدينار
أما من ناحية الإيداعات النقدية، فإنها قد تكون بالدولار أو بالدينار العراقي، فإذا كانت بالدينار العراقي فإن المسألة ليس لها علاقة بالعقوبات الأميركية ولا توجد مشكلة ويستمر العمل بها، وفق الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن الشيخلي.
ويضيف الشيخلي لوكالة شفق نيوز "أما إذا كانت الإيداعات النقدية بالدولار، فيجدر التوضيح بداية أن العرف المصرفي عندما يودع المواطن أمواله في المصرف لأغراض الحساب الجاري أو كودائع لأغراض الفائدة، تبقى أموال المودع تدور ضمن القنوات المصرفية من المصرف نفسه الذي أودع المواطن فيه أمواله، ولن تذهب إلى مكان آخر".
"وعندما يحتاجها المواطن يتم إرجاع الأموال إليه بالعملة نفسها، لأنها لم تخرج من المصرف، بل تدور داخل حلقة القنوات المصرفية للمصرف ذاته"، بحسب الشيخلي.
ويلفت الشيخيلي إلى أنه "أحياناً يحصل تأخير عند إرجاع الأموال حيث كان في السابق يمكن اللجوء إلى البنك المركزي وسحب الأموال منه لإعطاء الأموال للمودع، لكن حالياً غير مسموح السحب من البنك المركزي بالدولار، ما يستلزم إرجاع الأموال التي أعطيت كائتمانات للآخرين، لذلك أحياناً قد يتأخر التوقيت بالتسليم".
وينوّه إلى أن "المصرف يعاقب ويحاسب وتسحب الرخصة منه إذا تلكأ ولم يسدد ما عليه من التزامات للمواطنين، فهذه مسألة مقدسة، لكن أحياناً نتيجة بعض السلوكيات التي مرّت على المصارف بصورة عامة، حصل عندهم نقص في السيولة المصرفية".
ويشير إلى أنه "في فترة دخول داعش عام 2014، كان لدى جميع المصارف خطابات ضمان تعود لشركات، لكن هذه الشركات تلكأت في تنفيذ واجباتها، لذلك تمت مصادرة مبالغ خطابات الضمان، ونتيحة لذلك شحت السيولة في بعض المصارف، وحصل عندهم تعثر، لكن المصارف الرصينة التي لديها سيولة كبيرة وكتل نقدية عالية تقدر بالتريليونات وليس بالمليارات، فهذه لم تواجه مشكلة".
ويردف الشيخلي "كما أن البنك المركزي يحتفظ بجزء من رؤوس أموال المصارف كاحتياطي لديه، ويستطيع التعويض من خلالها، كما هناك شركة لضمان الودائع أسسها البنك المركزي قبل 4 سنوات تقريباً، وهذه تسد جزءاً من العجز الذي قد يعاني منه المصرف".
ويستدرك "لكن هذا في حال إفلاس المصرف، ولم يحصل هذا الأمر سوى في مصرف واحد وهو (مصرف البصرة الدولي) الذي أعلن إفلاسه، وهناك تحرك لإعادة أعماله، أما بقية المصارف فلا تواجه مشكلة، هذا من ناحية".
ويتابع الشيخلي "أما من ناحية ثانية، فإن المصارف الثمانية التي تعرضت لحجب التعامل بالدولار مؤخراً، فهذا لأول مرة يصدر مثل هكذا قرار من قبل البنك المركزي العراقي وليس من الإدارة الأميركية، عدا مصرف واحد (الهدى) من هذه المصارف الثمانية كان بإيعاز من وزارة الخزانة الأميركية لثبوت علاقته بالحرس الثوري الإيراني".
أما بقية المصارف الأخرى السبعة فكان قرار الحجب (منع دخولها بنافذة بيع العملة) مؤقتاً ولأغراض تدقيقية ورقابية من قبل البنك المركزي، وفق الشيخلي.
ويشير إلى أن "نافذة بيع العملة سوف تنتهي تدريجياً خلال عام 2024، وكذلك الحال بالنسبة للمنصة الإلكترونية، لذلك مدى الأثر السلبي لهذا الحظر على المصارف لن يكون ذا جدوى كبيرة".
ويوضح الخبير الاقتصادي ذلك بالقول، إن "القرار صدر من البنك المركزي وبالاتفاق مع وزارة الخزانة الأميركية بتنويع سلّة العملات دون حصرها بالدولار الأميركي، وعلى هذا الأساس فُتحت حسابات للمصارف الأهلية بالخارج مع مصارف أجنبية رصينة ذات علاقات مصرفية خارجية، وبناءً على ذلك يمكن للمصارف التي حجبت عن التعامل بالدولار العمل بكل المنتجات المصرفية عدا التعامل بالدولار".
معايير البنك المركزي
ويشرف البنك المركزي العراقي على عمل المصارف استناداً لقانون رقم 56 لسنة 2004، وشُرع قانون خاص بغسيل الأموال وتمويل الإرهاب رقم 39 لسنة 2015، وباشر بتطبيق هذا القانون في 1 كانون الثاني/ يناير 2016.
وبدأ البنك المركزي يفرض على المصارف تطبيق معايير امتثال عالمية، ما أجبر مصارف على تخصيص مدير يتابع عمليات غسل الأموال لجميع حركات الأموال الموجودة من أجل الامتثال للمعايير الدولية، بحسب الخبير الاقتصادي، عبد الرحمن المشهداني.
ويوضح المشهداني لوكالة شفق نيوز "لكن الإشكالية أن قسماً كبيراً من هذه المصارف لم تلتزم بالمعايير، وأن من يتعامل مع الجانب الأميركي عليه الالتزام بمعاييره بمنع التعامل مع الدول المعاقبة، لكن لم تستطع لا المصارف ولا البنك المركزي ولا حتى الحكومة إقناع الجانب الأميركي بأن هذه الأموال هي ليست غسيل أموال ولا تمويل إرهاب، وإنما تمويل تجارة".
ويشرح، أن "العراق يستورد من إيران بحدود 25 إلى 30 مليون دولار يومياً، وهذه كيف تلبى في ظل عدم وجود تجارة معهم، بل نستورد ولا نصدر لهم، ومن يُصدّر يحتاج إلى نقود؟".
ويتابع المشهداني، أن "البنك المركزي العراقي طلب من المصارف مؤخراً، الاستعانة بشركات عالمية ذات خبرة لتدقيق عملها وبرامجها خلال السنوات الثلاث الماضية، حتى عندما يصدر تقرير من هذه الشركات لن يدّعي الجانب الأميركي وجود محاباة بالتقرير، لأن هذه الشركات عالمية رصينة، وأن الأميركيين هم الذين اقترحوا 5 شركات، وأن تتحول المصارف من دكاكين إلى مصارف حقيقية".
وينوّه إلى أن "المشكلة، هي أن المصارف العراقية صغيرة، وكان من ضمن الشروط أن تحصل المصارف على تصنيف من التصنيفات العالمية التي تصدرها شركات التصنيف العالمية سواء (ستاندرد آند بوز) أو (موديز) وغيرها، فعندما يصدر تقرير من هذه المؤسسات سوف يصدر تقرير رصين، ولن يعترض عليه الجانب الأميركي".
العقوبات الأميركية
ويشير الخبير الاقتصادي، إلى أن "عدد المصارف العراقية التي عليها عقوبات أميركية 28 مصرفاً، بدأت بـ4 مصارف (الوجبة الأولى)، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2022، وهي (الأنصاري الإسلامي للاستثمار والتمويل، والقابض الإسلامي للاستثمار والتمويل، والشرق الأوسط العراقي للاستثمار، وآسيا العراق الإسلامي للاستثمار والتمويل)".
ويضيف "ثم تبعتها 14 مصرفاً (الوجبة الثانية) في أيار/ مايو 2023، وهي مصارف (المستشار الإسلامي للاستثمار والتمويل، والقرطاس الإسلامي للاستثمار والتمويل، والطيف الإسلامي، وإيلاف، وأربيل للاستثمار والتمويل، والبنك الإسلامي الدولي، وعبر العراق، والموصل للتنمية والاستثمار، والراجح، وسومر التجاري، والثقة الدولي الإسلامي، وأور الإسلامي، والعالم الإسلامي للاستثمار والتمويل، وزين العراق الإسلامي للاستثمار والتمويل)".
ويؤكد المشهداني "ومن ثم أضيفت لها 8 مصارف في شباط/ فبراير الماضي، وهي (آشور الدولي للاستثمار، والاستثمار العراقي، والاتحاد العراقي، وكوردستان الدولي الإسلامي للاستثمار والتنمية، والهدى، والجنوب الإسلامي للاستثمار والتمويل، والعربي الإسلامي، وحمورابي التجاري)".
وينوه إلى أن "مصرف (البلاد) لحمد الموسوي، تمت معاقبته، لكن قام بتغيير اسمه إلى (الهدى)، وتمت معاقبته مرة ثانية، لذلك عند احتساب مصرف حمد الموسوي بأنه واحد، تكون الحصيلة 27 مصرفاً، أما عند احتساب كل عقوبة على حدة، عندها تكون عقوبتين، وبالتالي الحصيلة 28 مصرفاً".