شفق نيوز - بغداد

لا تزال معاناة الكورد الفيليين مستمرة على شتى الصعد رغم مرور 15 عاماً على صدور قرار المحكمة الجنائية العراقية العليا الذي عدّ ما تعرضت له هذه الشريحة من تسفير وتهجير ومصادرة المستمسكات الثبوتية والأموال المنقولة وغير المنقولة وتغييب آلاف الشباب في ثمانينيات القرن المنصرم جريمة إبادة جماعية بكل المقاييس.

وبعد مضي عقد ونصف العقد من الزمن على صدور قرار المحكمة، وبهذه المناسبة أقام المؤتمر العام للكورد الفيليين في بغداد ندوة حوارية بعنوان "الجينوسايد الآثار والدلائل في واقع المكون الفيلي".

إزالة الآثار السيئة

وهدفت الندوة إلى تأصيل قضية الإبادة الجماعية التي تعرض لها الكورد الفيليون، بوصفها قضية متجذرة في التاريخ العراقي المعاصر، تتطلب معالجات جادة من قبل الحكومة العراقية، ولا سيما على مستوى السلطة التشريعية، و متابعة إزالة آثار الإبادة الجماعية عبر مراقبة أداء المؤسسات التنفيذية، ورصد انعكاساتها النفسية والاجتماعية على الأجيال، وسبل التعامل معها، وصولا إلى إزالة اثار التطهير العرقي الذي طال هذه الشريحة.

شحن الذاكرة

وبهذا الصدد قال مستشار شؤون الكورد الفيليين في مجلس النواب العراقي، فؤاد علي أكبر الذي شارك في الندوة، لوكالة شفق نيوز، إن موضوع الندوة تمحور حول استذكار جرائم النظام السابق، مؤكداً أن إحياء الذاكرة ضرورة وجودية للشعوب، إذ إن الشعوب التي لا تمتلك ذاكرة حية تموت، وتموت معها قضاياها وتاريخها.

وأضاف "نحن شعب حي، ولذلك نستذكر هذه الجرائم من أجل إحيائها في الوعي العام"، موضحا

أن التعريفات الساذجة التي قُدمت عن الكورد الفيليين لا ترتقي إلى حجم الدور الكبير الذي أدوه في السياسة العراقية والتاريخ الوطني.

كما أشار علي أكبر إلى أن، الكورد الفيليين كانوا كورداً بامتياز وشيعة بامتياز وتميزوا في تنظيماتهم الفاعلة، وحضورهم الثقافي، ودورهم الاقتصادي كتجار، إضافة إلى دعمهم للمرجعية الدينية، والحركات الكوردية، ليس مادياً فحسب، بل روحياً أيضاً.

وأكد أن هذه الشريحة قدمت شهداء في قضايا وطنية وإنسانية عدة، حتى في القضية الفلسطينية، وكانت سنداً للحركات الوطنية واليسارية، ودافعت عنها وقدم التضحيات، منوها الى أن هذا النشاط الواسع كان يربك النظام السابق، ويضعه أمام مكون حي وفاعل داخل المجتمع.

ومضى المستشار النيابي بالقول إن حزب البعث، الذي حمل فكراً قومياً أحادياً، سعى إلى جر المجتمع العراقي نحو مشروع قومي لا ينسجم مع طبيعة بلد متعدد الثقافات والانتماءات، فعمل على تفكيك المجتمع للسيطرة عليه.

ونبّه إلى أن الانتماء الوطني كان حجر عثرة أمام هذا المشروع البعثي، إذ تعارض مع الحركات اليسارية والوطنية، ليجد النظام في الكورد الفيليين الرقم الأصعب في هذه المعادلة، لكونهم متجاوزين للتقسيمات الضيقة و جامعين بين الهويات.

وأكد علي أكبر أن تسليط الضوء على دور الكورد الفيليين يعد أمراً ضرورياً لإحياء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء الوطني الذي فقده كثير من أبناء المجتمع، في وقت تلجأ فيه بعض المكونات إلى حجب هويتها. ولهذا، استهدف النظام السابق هذا النسيج الوطني الرابط بوحشية، لأنه كان مكوناً فاعلاً يجمع العراقيين على وحدة الوطن وحبه.

وخلص الى أن الكورد الفيليين بصمات واضحة في تاريخ الفن والرياضة والاقتصاد، إلا أن جرائم النظام البائد بحقهم ما زالت بلا إنصاف حقيقي، إذ جرى تغييب الآلاف منهم، ولم يتم العثور حتى اليوم على رفات أي منهم، في إهمال واضح يتنافى مع قرار مجلس الوزراء رقم (426) لسنة 2010، الذي نص على التعاون الحكومي لإزالة الآثار السلبية التي لحقت بالكورد الفيليين.

واختتم علي اكبر قائلا، إن الآثار السلبية تتمثل في إعادة الكورد الفيليين إلى دورهم الطبيعي في المجتمع، كما كانوا نشطين وفاعلين على جميع الأصعدة، معتبرا أن هذه مسؤولية جماعية تتطلب تحركاً جاداً، مؤكداً أن بناء مقبرة تخلد ذكراهم خطوة مهمة لكنها غير كافية، ما لم يكن هناك توجه حقيقي لدعم الكورد الفيليين وإنصافهم فعلياً.

اصوات نشاز

في غضون ذلك قال القاضي منير حداد نائب رئيس محكمة التمييز فى المحكمة الجنائية العراقية العليا السابقة، إن الإبادة الجماعية خلفت اثارا بالغة الأهمية على الكورد الفيليين بوصفهم "مكوناً قوميا"، مؤكداً أن معالجة هذه الآثار تتطلب قوة حقيقية وصوتاً موحداً.

ولفت إلى ظهور بعض الأصوات النشاز في الفترة الأخيرة التي تحاول نفي الهوية القومية للكورد الفيليين، عبر القول إنهم ليسوا كورداً.

وأضاف حداد في حديثه لوكالة شفق نيوز، أن كوردستان تمتلك علاقات وأحزاباً سياسية ذات امتدادات دولية وعلاقات مع الغرب، إلا أن هناك تقصيراً عاماً تتحمل مسؤوليته جميع الأطراف، مردفا بالقول: نحن نحاول، بكل ما أوتينا من قوة، العمل من أجل إنصاف هذه القضية

وأكد حداد فخره بالدور الذي أداه الكورد الفيليون في تأسيس المحكمة الجنائية، والتي أسهمت في إيصال 39 من قيادات النظام المباد إلى حبل المشنقة، معتبراً ذلك إنجازاً تاريخياً في مسار العدالة الانتقالية.

وتابع القاضي حداد والذي شغل أيضا منصب رئيس اللجنة المشرفة على إعدام رئيس النظام العراقي السابق صدام حسين، بالقول إنه متفائل بالمستقبل، مشيراً إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تكاتفاً أكبر ووعياً متنامياً على مستوى الشخصيات الوطنية والأفراد، بما يعزز فرص إنصاف الضحايا وترسيخ العدالة.

استمرار الإهمال

بدوره قال طارق المندلاوي رئيس المؤتمر الوطني العام للكورد الفيليين لوكالة شفق نيوز، إن صدور قرارات المحكمة الجنائية يجب أن يقابل بآليات تنفيذ واضحة وفاعلة، منوها إلى أن غياب هذه الآليات أدى إلى استمرار حرمان عوائل شهداء الكورد الفيليين من حقوقهم، إذ لم يحصل كثير منهم على أي تعويض مادي لغاية الآن، كما لم تعوض عوائل السجناء السياسيين من هذا المكان رغم مرور سنوات طويلة.

وأوضح أن هناك مقترحا سابقا بتشكيل لجنة خاصة الكورد الفيليين داخل مؤسسة السجناء السياسيين، إلا أن هذه اللجنة لم تشكل حتى اليوم، ما يعكس استمرار الإهمال في التعامل مع الملف.

وأضاف أن قرار مجلس الوزراء رقم (426) نص بوضوح على التزام الدولة العراقية بإزالة جميع الآثار السيئة التي لحقت الكورد الفيليين، إلا أن هذه الآثار ما تزال حتى الآن.

وبين المندلاوي ان ملفات السجناء والمغيبين قسراً لم تحسم بعد، فضلاً عن استمرار أزمة إسقاط الجنسية، حيث ما تزال أُسر كثيرة عالقة بين دولتين، لا يعرف إن كانت عراقية أم إيرانية، في ظل غياب حلول قانونية حاسمة لهذه الإشكالات.

وطالب رئيس المؤتمر مؤسسة الذاكرة العراقية، برئاسة حسام حاج حسين، أن تتبنى ملف إزالة الآثار بشكل جدي، مؤكداً أن هذه الالتزامات لم تنفذ رغم اللقاءات مع رئيس مجلس الوزراء.

وأكد أنه جرى تخصيص مقبرة لتكون شاهدة على تضحيات شهداء الكورد الفيليين، إلا أن محافظ النجف لم يطبق حتى الآن قرار تخصيص قطعة أرض لدفن رفات الشهداء المغيبين.

ونوه المندلاوي إلى أن المطالبة بإنشاء مراكز ثقافية للكورد الفيليين ما تزال تصطدم بعدم تنفيذ قرار (426) من قبل محافظات ديالى وواسط وبغداد، محذراً من أن استمرار هذا الإهمال سيبقي القضية في دائرة المراوحة.

وشدد رئيس المؤتمر على أن تنفيذ القرار يتطلب نهضة حقيقية من أبناء الكورد الفيليين أنفسهم، داعياً إلى تنظيم وقفات احتجاجية واسعة تضم آلاف المشاركين، للضغط باتجاه استحصال الحقوق المشروعة.

ونبهّ الى أن هناك الكثير من التساؤلات وهي لماذا لا يكون للكورد الفيليين مقعد دراسي خاص، أسوة بذوي الشهداء والسجناء السياسيين وذوي الإعاقة؟.

وختم المندلاوي بالقول إن إزالة الآثار السيئة لا تتحقق بالندوات وحدها، بل عبر القوانين، وقرارات مجلس الوزراء، وأحكام المحاكم العراقية، ولا سيما مجلس القضاء الأعلى، مشدداً على ضرورة وجود حس عال وإرادة جادة للانتقال من التشخيص إلى التنفيذ.

وتخللت الندوة العديد من المداخلات، وطرح أسئلة عكست حجم المعاناة التي ما يزال يواجهها المواطنون من الكورد الفيليين.

اتساع الفجوة

وأظهرت النقاشات حجم الفجوة بين القرارات الرسمية وما تحقق منها على أرض الواقع.

من جانبها، قالت أماني حمد، إحدى المشاركات في الندوة، إن الحضور جاء بهدف فهم ما تم إنجازه من قرار مجلس الوزراء رقم (426)، وما لم ينفذ حتى الآن، إلى جانب محاولة التعرف على السبل القانونية لاستحصال الحقوق.

وأضافت أن المشاركة في مثل هذه الندوات واجب وطني يهدف إلى رفع اسم الكورد الفيليين عالياً، والتأكيد على دورهم في بناء الوطن.

وشرع نظام البعث في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن المنصرم بحملة كبيرة لتهجير الكورد الفيليين، وسحب الجنسية العراقية منهم ومصادرة ممتلكاتهم وأموالهم المنقولة وغير المنقولة.

كما تعرض الكورد الفيليون للتسفير والتهجير والاعتقال والقتل إبان حكم الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر في عامي 1970 و1975، ومن بعده نظام صدام حسين في 1980، ويرى مؤرخون يرون أن التهجير جاء بسبب انتماءاتهم القومية والمذهبية.

وأصدرت محكمة الجنايات العليا حكمها في العام 2010 بشأن جرائم التهجير والتغييب ومصادرة حقوق الكورد الفيليين وعدها من جرائم الإبادة الجماعية.

وأصدرت الحكومة العراقية في الثامن من كانون الأول 2010، قراراً تعهدت بموجبه بإزالة الآثار السيئة لاستهداف الكورد الفيليين فيما أعقبه قرار من مجلس النواب في الأول من آب من العام 2010، عد بموجبه عملية التهجير والتغييب القسري للفيليين جريمة إبادة جماعية.

وتم تخصيص 2 نيسان/أبريل من كل عام يوماً رسمياً لـ"الشهيد الفيلي" لاستذكار جرائم النظام السابق الذي رأسه صدام حسين و لنحو ثلاثة عقود، حيث ساق آلاف الشبان من الكورد الفيليين إلى أماكن غير معلومة وما يزال مصيرهم مجهولاً ويرجح بأنهم قضوا في المعتقلات أو دفنوا أحياء في مقابر جماعية.